114ـ حول عباداته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

114ـ حول عباداته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: حَوْلَ عِبَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

إِنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَالَ أَشْرَفَ مَقَامَاتِ العِبَادَةِ وَأَقْرَبَهَا إلى اللهِ تعالى زُلْفَى، فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ العِبَادِ، وَإِمَامُ العُبَّادِ.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.

فَأَمَرَ اللهُ تعالى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هَذِهِ الآيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:

التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالسُّجُودُ، وَالعِبَادَةُ حَتَّى المَوْتِ.

أَمَّا التَّسْبِيحُ: فَهُوَ تَنْزِيهُ اللهِ تعالى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.

وَأَمَّا التَّحْمِيدُ: فَهُوَ إِثْبَاتُ المَحَامِدِ لَهُ وَالكَمَالَاتِ اللَّائِقَةِ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾. أَيْ: المُصَلِّينَ، فَأَطْلَقَ الجُزْءَ ـ وَهُوَ السُّجُودُ ـ وَأَرَادَ الكُلَّ ـ وَهُوَ الصَّلَاةَ ـ وَفِي هَذَا الأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾. فِيهِ التَّنْبِيهُ إلى أَفْضَلِيَّةِ السُّجُودِ، كَمَا صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَجَاءَتْ هَذِهِ الأَوَامِرُ بَعْدَمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَعْتَرِي رَسُولَهُ الكَرِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ، وَالغَمِّ الذي يَجِدُهُ بِسَبَبِ مَا يَقُولُهُ الكُفَّارُ مِنْ كَلِمَاتِ الكُفْرِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تعالى.

فَجَاءَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾. بَعْدَ ذَلِكَ إِرْشَادَاً إلى مَا يَكْشِفُ اللهُ تعالى مِنَ الغَمِّ، وَيُزِيلُ بِهِ ذَلِكَ الهَمَّ، وَيَشْرَحُ بِهِ الصَّدْرَ، وَيُذْهِبَ ذَلِكَ الضِّيقَ، وَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَحْزَنَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلى الصَّلَاةِ.

ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. أَيْ: المَوْتُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنَاً اللُّحُوقُ بِكُلِّ حَيٍّ مَخْلُوقٍ.

وَالمَعْنَى: دُمْ عَلَى العِبَادَاتِ مَا دُمْتَ حَيَّاً مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِهَا لَحْظَةً.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِاليَقِينِ هُنَا المَوْتُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾. أَيْ: المَوْتُ.

وَجَاءَ في الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ـ وَقَدْ تُوُفِّيَ ـ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هُوَ ـ أَيْ: عُثْمَانُ ـ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ؛ فَأَرَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِاليَقِينِ المَوْتَ.

وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. مَعْنَاهُ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ مُدَّةَ حَيَاتِكَ كُلِّهَا، دَائِمَاً دَائِبَاً.

وَهَذِهِ الآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إِخْبَارَاً عَنْ رَسُولِهِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً﴾.

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ للحَافِظِ البَغَوِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ مُرْسَلَاً: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.

فَالعَابِدُ مَهْمَا ارْتَفَعَ مَقَامُهُ في العِبَادَاتِ، لَا يَسْتَغْنِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ تعالى، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الأَمْرُ التَّكْلِيفِيُّ بِالعِبَادَةِ مَا دَامَ حَيَّاً عَاقِلَاً.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيَّاً﴾؟! أَيْ: مَثِيلَاً مُسَامِيَاً لَهُ وَمُشَابِهَاً؟ لَا: بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. وَالمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا مِثْلَ لَهُ أَصْلَاً، وَجِيءَ بِـ: مِثْلِ، هُنَا تَأْكِيدَاً لِنَفْيِ المِثْلِيَّةِ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ وَالاعْتِبَارَاتِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَهَذَا لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَفِي لُغَةِ العَرَبِ، وَقَدْ نَزَلَ القُرْآنُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ﴾. أَيْ: لَيْسَ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا عَدِيلٌ.

وَالمَقْصُودُ: أَنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالاصْطِبَارِ لَهَا، وَذَلِكَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا في أَوْقَاتِهَا، وَالمُوَاظَبَةِ الدَّائِمَةِ عَلَيْهَا في الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَذَلِكَ بِإِعْطَاءِ كُلِّ وَقْتٍ حَقَّهُ وَحَظَّهُ مِنَ العِبَادَةِ لَيْلَ نَهَارَ.

وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِبَادَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَائِمَةً مُسْتَمِرَّةً مُتَوَاصِلَةً في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ: كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئَاً مِنَ الْأَيَّامِ؟ (أَيْ: وَيَتْرُكُ العَمَلَ في أَيَّامٍ).

فَقَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطِيعُ؟!

وَلَمْ يَدَعْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَوَافِلَهُ وَتَطَوُّعَاتِهِ طِيلَةَ عُمُرِهِ، كَمَا جَاءَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ (أَيْ: التَّطَوُّعَ) وَهُوَ جَالِسٌ، وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرَاً» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ. كَمَا في التَّرْغِيبِ للحَافِظِ المُنْذِرِيِّ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 13/ شعبان /1440هـ، الموافق: 19/ نيسان / 2019م