650ـ خطبة الجمعة: يا طلاب السعادة

650ـ خطبة الجمعة: يا طلاب السعادة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعِيشُ في هَمٍّ وَغَمٍّ وَكَرْبٍ وَقَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ، لِأَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا أَيْنَ تَكْمُنُ السَّعَادَةُ، بَعْضُهُمْ ظَنَّ السَّعَادَةَ بِالمَالِ الوَفِيرِ، وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ السَّعَادَةَ بِالمَنَاصِبِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، بَعْضُهُمْ ظَنَّ السَّعَادَةَ بِالوَلَدِ.

لَقَدْ طَلَبَ هَؤُلَاءِ السَّعَادَةَ مِنْ غَيْرِ مَظَانِّهَا، فَكَانَتْ سَبَبَاً لِهَلَاكِهِمْ وَدَمَارِهِمْ، لَقَدْ طَلَبَهَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِالمُلْكِ بِدُونِ إِيمَانٍ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾. وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾. وَقَالَ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾. فَكَانَ جَزَاءُ ذَلِكَ هَلَاكَاً وَغَرَقَاً وَلَعْنَةً ﴿فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾.

لَقَدْ طَلَبَهَا قَارُونُ بِالمَالِ بِدُونِ إِيمَانٍ، فَجَمَعَ مِنَ المَالِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ﴾، وَأَنْذَرَهُ مَوْلَانَا مَغَبَّةَ تَـصَرُّفَاتِهِ ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾، وَلَكِنَّهُ أَبَى فَكَانَ جَزَاءُ ذَلِكَ ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَـنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ﴾.

لَقَدْ طَلَبَهَا الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ بِالوَلَدِ بِدُونِ إِيمَانٍ، فَآتَاهُ اللهُ تعالى المَالَ وَالوَلَدَ، فَعَاثَ في الأَرْضِ فَسَادَاً، فَكَانَ جَزَاءُ ذَلِكَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدَاً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالَاً مَمْدُودَاً * وَبَنِينَ شُهُودَاً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدَاً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدَاً * سَأُرْهِقُهُ صَعُودَاً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ البَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.

السَّعَادَةُ بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ إِنَّ السَّعَادَةَ لَا تَأْتِي إِلَّا بِالإِيمَانِ بِاللهِ تعالى بِأَنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ وَبِالعَمَلِ الصَّالِحِ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

فَهَذا سَيِّدُنَا يُونُسُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَدَ السَّعَادَةَ وَكَانَ في ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، في ظُلْمَةِ بَطْنِ الحُوتِ، وَفي ظُلْمَةِ اليَمِّ، وَفي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَجَدَ السَّعَادَةَ في حِينِ انْقَطَعَتْ بِهِ الحِبَالُ، إِلَّا حَبْلَ اللهِ تعالى، وَتَمَزَّقَتْ كُلُّ الأَسْبَابِ إِلَّا سَبَبَ اللهِ، فَهَتَفَ وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ، بِلِسَانٍ ضَارِعٍ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. فَوَجَدَ السَّعَادَةَ ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾.

وَهَذَا سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ لَهُ قَوْمُهُ: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾. عِنْدَمَا تَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾. فَوَجَدَ السَّعَادَةَ ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ﴾.

وَهَذَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ بِأَنَّ السَّعَادَةَ لَنْ تَكُونَ إِلَّا إِذَا كَانَ العَبْدُ بِمَعِيَّةِ اللهِ تعالى، لَقَدْ طَوَّقَهُ المُشْرِكُونَ وَهُوَ في الغَارِ يَوْمَ الهِجْرَةِ، فَقَالَ لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: فَأَهْلُ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ المُلُوكُ وَأَبْنَاءُ المُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ السُّرُورِ وَالنَّعِيمِ إِذَاً لَجَالَدُونَا عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ بِأَسْيَافِهِمْ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ لَذَّةِ الْعَيْشِ وَقِلَّةِ التَّعَبِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

فَيَا طُلَّابَ السَّعَادَةِ، وَيَا عُشَّاقَ السَّعَادَةِ، وَيَا أَيُّهَا البَاحِثُونَ عَنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهِ لَنْ تَجِدُوا إلى ذَلِكَ سَبِيلَاً إِلَّا عَنْ طَرِيقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي عَاشَ سَعِيدَاً، وَعَرَّفَ البَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ بِأَنَّ السَّعَادَةَ لَنْ تَكُونَ إِلَّا إِذَا كَانَ العَبْدُ بِمَعِيَّةِ اللهِ تعالى، وَمُسْتَجِيبَاً لِأَمْرِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.

وَاللهِ إِنَّ السَّعَادَةَ كُلَّ السَّعَادَةِ إِذَا أَتَتْكَ سَكَرَاتُ المَوْتِ، وَوَجْهُكَ مُتَهَلِّلٌ فَرَحَاً وَسُرُورَاً، وَأَنْتَ تَقُولُ: وَاطَرَبَاهُ، غَدَاً أَلْقَى الأَحِبَّةَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبَهُ.

وَلَكِنْ إِذَا أَتَتْ سَكَرَاتُ المَوْتِ، وَقَالَ العَبْدُ عِنْدَهَا: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾. وَقَالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾. وَقَالَ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وَقَالَ لَا قَدَّرَ اللهُ كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾؟. فَأَيُّ سَعَادَةٍ كَانَ فِيهَا هَذَا العَبْدُ المَغْرُورُ؟

يَا رَبِّ، نَسْأَلُكَ إِيمَانَاً يُبَاشِرُ قُلُوبَنَا، وَيَقِينَاً صَادِقَاً حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبْتَهُ لَنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 20/ شعبان /1440هـ، الموافق: 26/ نيسان / 2019م