117ـ إرشاداته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعِباد والعُباد

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

117ـ إرشاداته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعِباد والعُباد

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: وَمِنْ إِرْشَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعِبَادِ وَالعُبَّادِ: أَنْ يَقُومُوا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الحُقُوقِ التي عَلَيْهِمْ، دُونَ أَنْ يَشْغَلَهُمْ حَقٌّ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ، وَلَا يَحْمِلَهُمْ أَدَاءُ وَاجِبٍ عَلَى إِهْمَالِ وَاجِبٍ آخَرَ: فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: «أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي؟».

فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَاتَّقِ اللهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ (أَيْ: مُدَّةَ حَيَاتِي كُلِّهَا).

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟».

فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ».

أَيْ: لِأَنَّ صِيَامَ اليَوْمِ مُقَابَلٌ بِعَشْرٍ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ يُعْطِي ثَلَاثِينَ حَسَنَةً.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَصُمْ يَوْمَاً، وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ».

قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ: فَصُمْ يَوْمَاً وَأَفْطِرْ يَوْمَاً، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ» أَيْ: أَفْضَلُ أَنْوَاعِ صِيَامِ التَّطَوُّعِ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ».

قَال ابْنُ عَمْرٍو: لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي.

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟».

قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ».

قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: فَشَدَّدْتُ (أَيْ: شَدَدْتُ عَلَى نَفْسِي وَلَمْ أَقْبَلْ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ) فَشُدِّدَ عَلَيَّ.

قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ».

قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نِصْفَ الدَّهْرِ».

فَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ ـ أَيْ: في السِّنِّ وَثَقُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ العَمَلُ ـ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟».

فَقُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ».

قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ».

قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ».

قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ؛ وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ».

قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: «وَإِنَّ لوَلَدِكَ علَيْكَ حَقَّاً».

وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَحَبُّ الصَّيَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ـ أَيْ: قِيَامُ اللَّيْلِ ـ صَلاةُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يوْمَاً ويُفْطِرُ يَوْمَاً، وَلَا يَفِرُّ ـ أَيْ: في الحَرْبِ ـ إِذَا لَاقَى ـ أَيْ: لَقِيَ العَدُوَّ ـ».

وَزَادَ النَّسَائِيُّ: «وَإِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: أَنْكَحَنِي ـ أَيْ: زَوَّجَنِي ـ أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ ـ أَيْ: امْرَأَةَ وَلَدِهِ ـ فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا ـ أَيْ: عَنْ حَالِ زَوْجِهَا مَعَهَا ـ فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشَاً، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفَاً مُنْذُ أَتَيْنَاهُ (أَيْ: لَمْ يَكْشِفْ لَنَا سِتْرَاً، وَكَنَّتْ بِذَلِكَ عَنْ عَدَمِ إِتْيَانِهِ لَهَا).

فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ـ أَيْ: عَلَى أَبِيهِ ـ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «القَنِي بِهِ».

قَالَ ابْنُ عَمْرٍو: فَلَقِيتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ.

فَقَالَ: «كَيْفَ تَصُومُ؟».

قُلْتُ: كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: «وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟».

قُلْتُ: كُلَّ لَيْلَةٍ؛ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَجَمِيعُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةٌ، مُعْظَمُهَا في الصَّحِيحَيْنِ وَقَلِيلٌ مِنْهَا في أَحَدِهِمْا. اهـ.

وَالمَقْصُودُ: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَغِّبُ في المُدَاوَمَةِ عَلَى الأَعْمَالِ وَالتَّطَوُّعَاتِ وَإِنْ قَلَّتْ، وَيُحَذِّرُ مِنَ الإِكْثَارِ المُؤَدِّي إلى الانْقِطَاعِ أَو نَفْرَةِ النَّفْسِ وَكَرَاهَتِهَا لِذَلِكَ.

كَمَا وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَرِّضُ عَلَى تَأْدِيَةِ جَمِيعِ الحُقُوقِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى المُكَلَّفِ، وَالقِيَامِ بِهَا كَامِلَةً، دُونَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِبَعْضِ الحُقُوقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِفْرَاطَاً فِيمَا اشْتَغَلَ بِهِ، وَتَفْرِيطَاً فِيمَا أَهْمَلَهُ وَشُغِلَ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 23/ شعبان /1440هـ، الموافق: 29/ نيسان / 2019م