148ـ يَا أُمَّه إِنِّي لَكِ نَاصِحٌ

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

148ـ يَا أُمَّه إِنِّي لَكِ نَاصِحٌ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ خَلَقَ اللهُ تعالى الخَلْقَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلَهُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِيَتَعَارَفُوا، لَا لِيَفْخَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالأَنْسَابِ أَو الأَحْسَابِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الأَكْرَمَ عِنْدَ اللهِ هُوَ الأَتْقَى، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

فَأَتْقَى النَّاسِ هُوَ الأَكْرَمُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالأَفْجَرُ وَالأَشْقَى هُوَ الأَذَلُّ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عِنْدَ النَّاسِ حَسَبَاً وَنَسَبَاً، قَالَ تعالى في حَقِّ حَسِيبٍ نَسِيبٍ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدَاً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالَاً مَمْدُودَاً * وَبَنِينَ شُهُودَاً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدَاً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدَاً * سَأُرْهِقُهُ صَعُودَاً﴾. وَقَالَ في آخَرَ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُمُ الأَكْرَمُ عِنْدَ اللهِ تعالى لِأَنَّهُمُ أَتْقَى النَّاسِ، كَمَا قَالَ تعالى عَنْهُمْ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾.

إِسْلَامُنَا يَمْقُتُ كُلَّ نَظْرَةٍ يَكُونُ أَسَاسُهَا النَّسَبُ وَالدَّمُ وَالعِرْقُ، لِأَنَّ هَذِهِ النَّظْرَةَ وَسِيلَةٌ لِتَفْرِيقِ الكَلِمَةِ، وَتَمْزِيقِ وَحْدَةِ المُجْتَمَعِ، المُسْلِمُ الذي تَرْبِطُهُ عَلَاقَةُ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ، التي هِيَ أَقْوَى مِنْ كُلِّ رَابِطَةٍ، وَأَوْثَقُ مِنْ أَيِّ عَلَاقَةٍ أُخْرَى.

إِنَّهُ أَخِي دُونَكَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، وَكَانُوا أَمَنَةً للنَّاسِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه ابن حبَّانَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةُ السَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا أَنَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ».

هَذَا سَيِّدُنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَضْرِبُ لَنَا أَرْوَعَ مِثَالٍ عِنْدَمَا يُرَجِّحُ دِينَهُ وَإِيمَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

روى ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا جَاءَ في الرَّوْضِ الأُنُفِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَقْبَلَ بِالأُسَارَى فَرّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: «اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرَاً».

قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي الأُسَارَى.

قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي، فَقَالَ: شُدَّ يَدَك بِهِ فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلَّهَا تَفْدِيهِ مِنْكَ.

قَالَ: وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إِلَّا نَفَحَنِي بِهَا.

قَالَ: فَأَسْتَحْيِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ صَاحِبَ لِوَاءِ المُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بَعْدَ النَّضْرِ بْنِ الحَارِثِ فَلَمَّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ لِأَبِي اليَسَرِ وَهُوَ الذِي أَسَرَهُ مَا قَالَ، قَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ: يَا أَخِي، هَذِهِ وَصَاتُك بِي.

فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنَّهُ أَخِي دُونَكَ. اهـ.

وَللهِ الحَمْدُ، لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ تعالى أَبَا عَزِيزٍ بِالإِسْلَامِ، وَشَرَّفَهُ بِالصُّحْبَةِ، وَسَمِعَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يَا أُمَّهْ، إِنِّي لَكِ نَاصِحٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ خَيْرَ تَرْبِيَةٍ، لَقَدِ اعْتَزُّوا بِدِينِهِمْ وَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَانْطَلَقُوا مِنْ مُنْطَلَقِ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

كَمَا رَبَّاهُمْ عَلَى سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَحُبِّ الهِدَايَةِ للآخَرِينَ، وَخَاصَّةً الأَقَارِبَ مِنْهُمْ.

جَاءَ في الطَّبَقَاتِ الكُبْرَى خَرَجَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ مِنَ المَدِينَةِ مَعَ السَّبْعِينَ الَّذِينَ وَافَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ حَاجِّ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، وَرَافَقَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ، فَقَدِمَ مَكَّةَ، فَجَاءَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَاً وَلَمْ يَقْرَبْ مَنْزِلَهُ، فَجَعَلَ يُخْبِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الأَنْصَارِ وَسُرْعَتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَاسْتَبْطَأَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَهُ، وَبَلَغَ أُمَّهُ أَنَّهُ قَدْ قَدِمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: يَا عَاقُّ، أَتَقْدَمُ بَلَدَاً أَنَا فِيهِ لَا تَبْدَأُ بِي؟

فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَبْدَأَ بِأَحَدٍ قَبْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَهُ ذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَعَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْأَةِ بَعْدُ.

قَالَ: أَنَا عَلَى دِينِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الإِسْلَامُ الَّذِي رَضِيَ اللهُ لِنَفْسِهِ وَلِرَسُولِهِ.

قَالَتْ: مَا شَكَرْتَ؟ مَا رَثَيْتُكَ مَرَّةً بِأَرْضِ الحَبَشَةِ وَمَرَّةً بِيَثْرِبَ (تَعْنِي أَنَّهَا تَتَوَجَّعُ وَيَرِقُّ قَلْبُهَا عَلَيْهِ).

فَقَالَ: أَفِرُّ بِدِينِي أَنْ تَفْتُنُونِي؛ فَأَرَادَتْ حَبْسَهُ.

فَقَالَ: لَئِنْ أَنْتِ حَبَسْتِنِي لَأَحْرِصَنَّ عَلَى قَتْلِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِي.

قَالَتْ: فَاذْهَبْ لِشَأْنَكَ، وَجَعَلَتْ تَبْكِي.

فَقَالَ مُصْعَبٌ: يَا أُمَّهْ، إِنِّي لَكِ نَاصِحٌ، عَلَيْكِ شَفِيقٌ، فَاشْهَدِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

قَالَتْ: وَالثَّوَاقِبِ لَا أَدْخَلُ فِي دِينِكَ فَيُزْرَى بِرَأْيِي، وَيُضَعَّفَ عَقْلِي، وَلَكِنِّي أَدَعُكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَأُقِيمُ عَلَى دِينِي.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ بَعْضِنَا مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾. مَعَ سَلَامَةِ صُدُورِنَا نَحْوَ خَلْقِ اللهِ جَمِيعَاً، مَعَ حِرْصِنَا عَلَى إِسْلَامِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ وَرَدِّهِمْ إلى اللهِ تعالى، وَخَاصَّةً في آوِنَةٍ كَثُرَتْ فِيهَا الفِتَنُ وَالمِحَنُ، وَزُلْزِلَ فِيهَا النَّاسُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

تاريخ الكلمة:

الخميس: 26/ شعبان /1440هـ، الموافق: 2/ أيار / 2019م