657ـ خطبة الجمعة: الاستقامة دليل القبول

.

657ـ خطبة الجمعة: الاستقامة دليل القبول

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يَهْتَمُّوْنَ بِقَبُولِ العَمَلِ أَكْثَرَ مِنَ اهْتِمَامِهِم بِالعَمَلِ، وَكَانَوا يَخَافُونَ مِنْ رَدِّ العَمَلِ بَعْدَ القِيَامِ بِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.

وَكَانَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِن صِيَامِ رَمَضَانَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ المَقْبُولُ فَنُهَنِّيهِ، وَمَنِ المَحْرُومُ فَنُعَزِّيهِ.

نَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ نَكُونَ مِمَّن قَبَضَ الجَائِزَةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أُمِرْنَا بِالصِّيَامِ فَصُمْنَا، وَأُمِرْنَا بِالقِيَامِ فَقُمْنَا، وَنَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ نَكُونَ مِمَّن قَبَضَ الجَائِزَةَ يَوْمَ الفِطْرِ، وَعَادَ إلى رَحْلِهِ رَاشِدَاً، وَمَنْ عَادَ إلى رَحْلِهِ رَاشِدَاً فَإِنَّهُ يَكُونُ عَازِمَاً عَلَى الاسْتِقَامَةِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا كَانَ في شَهْرِ رَمَضَان وَزِيَادَةً؛ وَالاسْتِقَامَةُ هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِأَمْرِ اللهِ فِعْلَاً وَتَرْكَاً، وَأَنْ يَجْمَعَ العَبْدُ بَيْنَ أَدَاءِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ المَعْصِيَةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.

1ـ اسْتَقَامُوا عَلَى أَنَّ اللهَ تعالى رَبُّهُمْ.

2ـ اسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ.

3ـ اسْتَقَامُوا عَلَى إِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ وَالعَمَلِ بِهِ إلى المَوْتِ.

4ـ اسْتَقَامُوا في أَفْعَالِهِمْ كَمَا اسْتَقَامُوا في أَقْوَالِهِمْ.

5ـ اسْتَقَامُوا سِرَّاً كَمَا اسْتَقَامُوا جَهْرَاً؛ فَالاسْتِقَامَةُ هِيَ طَرِيقُ النَّجَاةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. فَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ، وَالنَّجَاحَ، وَالفَلَاحَ، وَتَنَزُّلَ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِ بِالبِشَارَةِ:

1ـ بِعَدَمِ الخَوْفِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ آتٍ.

2ـ وَبِعَدَمِ الحُزْنِ عَلَى مَا هُوَ مُفَارِقُهُ.

3ـ وَبِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

4ـ وَوِلَايَةِ المَلَائِكَةِ لَهُ في السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.

5ـ وَبِنَعِيمٍ مَا رَأَتْهُ عَيْنٌ وَلَا سَمِعَتْهُ أُذُنٌ، فَعَلَيْهِ بالاستقامة، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.

الاسْتِقَامَةُ هِيَ الكَلِمَةُ الجَامِعَةُ المَانِعَةُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ كَلِمَةَ الاسْتِقَامَةِ هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ، تَتَعَلَّقُ بِالأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَلِهَذَا أَمَرَ رَبُّنَا جَلَّ جَلَالُهُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ تَابَ مَعَهُ بِالاسْتِقَامَةِ، فَقَالَ: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. وَقَالَ لَهُ: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. وَأَمَرَ الأُمَّةَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَاً فَاتَّبِعُوهُ﴾. وَبَيَّنَ مُهِمَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَرَكَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، وَلَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الصَّارِفَ عَنِ الاسْتِقَامَةِ إِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، لِأَنَّهُ جَالِسٌ عَلَى طَرِيقِ الاسْتِقَامَةِ لِصَرْفِهِمْ عَنْهَا، فَقَالَ تعالى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾.

لِذَلِكَ يُعَاتِبُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ العُقَلَاءَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلَاً﴾. هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُتَّخَذَ العَدُوُّ وَلِيَّاً مِنْ دُونِ اللهِ؟ هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُصْغِيَ إِلَيْهِ عَاقِلٌ وَهُوَ يَعْلَمُ بِأَنَّهُ يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ؟ أَلَمْ يَعْلَمِ العُقَلَاءُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ بِالاسْتِقَامَةِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا كُنَّا مُسْتَقِيمِينَ فِيهِ، اسْتَقِيمُوا عَلَى صَلَوَاتِكُمْ في الجَمَاعَةِ الأُولَى؛ اسْتَقِيمُوا عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى وَالأَوَّابِينَ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالتَّهَجُّدِ؛ اسْتَقِيمُوا عَلَى حِفْظِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالفُؤَادِ، اسْتَقِيمُوا ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً سِرَّاً وَجَهْرَاً عَلَى شَرِيعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَهُ تعالى وَهُوَ يُخَاطِبُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾.

روى ابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ».

وروى كذلك عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَرْفَعُ الحَدِيثَ قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَنِعِمَّا إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ».

وروى الإمام مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلَاً لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً بَعْدَكَ.

قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ».

يَا عِبَادَ اللهِ: أَعْظَمُ كَرَامَةٍ هِيَ الاسْتِقَامَةُ؛ فَنَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنِي وَإِيَّاكُمْ بِالاسْتِقَامَةِ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، سِرَّاً وَجَهْراً حَتَّى نَلْقَاهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنَّا، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

اللَّهُمَّ أَمِتْنَا عَلَى كَمَالِ الاسْتِقَامَةِ حَتَّى نَسْعَدَ سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ بَعْدَهَا بِفَضْلٍ مِنْكَ وَكَرَمٍ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 3/ شوال /1440هـ، الموافق: 7/حزيران / 2019م