2ـ الآخرة حق ثابت (1)

الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

2ـ الآخرة حق ثابت (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مُقَدِّمَةٌ في أَنَّ الآخِرَةَ هِيَ حَقٌّ ثَابِتٌ لَا رَيْبَ فِيهَا:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾ ـ أَيْ: اليَوْمُ الآخِرُ ـ ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.

إِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ في الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ الكَرِيمَةِ، يَجِدُهَا قَدْ سَلَكَتْ في إِثْبَاتِ الآخِرَةِ، وَالنَّشْـرِ وَالحَشْرِ وَالحِسَابِ، وَجَمِيعِ مَا هُنَالِكَ ـ أَحْسَنَ الطُّرُقِ التي تُنِيرُ العُقُولَ، وَتُبَصِّـرُهَا مِنْهَاجَ الوُصُولِ إلى اعْتِقَادِ ذَلِكَ، وَالإِذْعَانِ إِلَيْهِ ـ وَنَحْنُ نُقَدِّمُ إِلَيْكَ بَيَانَ هَذَا.

إِنَّنَا إِذَا تَدَبَّرْنَا الآيَاتِ الكَرِيمَةِ التي تَبْحَثُ عَنِ الآخِرَةِ، يَتَّضِحُ لَنَا جَلِيَّاً أَنَّهَا تَسْتَنْهِضُ العُقُولَ مِنْ غَفَلَاتِهَا، وَتَسْتَفِزُّ الأَفْكَارَ مِنْ مَرَاقِدِهَا، لِأَجْلِ أَنْ تَضْطَرَّهَا إلى إِثْبَاتِ عَالَمِ الآخِرَةِ، وَإِنَّ العَقْلَ السَّلِيمَ لَيَأْبَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ حَدِّ عَالَمِ الدُّنْيَا الفَانِي، وَيُنْكِرَ العَالَمَ الآخِرَ البَاقِي، وَقَدْ جَاءَتِ الآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ في إِثْبَاتِ ذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

أولاً: تَنْبِيهُ القُرْآنِ الكَرِيمِ إلى أَنَّ النَّظَرَ في العَالَمِ السَّمَاوِيِّ وَالأَرْضِيِّ يُؤَدِّي إلى إِثْبَاتِ الآخِرَةِ.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلَاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.

فَقَدْ أَنَارَ اللهُ تعالى لِأُولِي الأَلْبَابِ، وَهُمُ الذينَ عَبَرُوا حِجَابَ الحِسِّ حَتَّى انْتَهَوا إلى اللُّبَابِ، أَنَارَ اللهُ تعالى لَهُمْ طُرُقَ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهِمَا مِنْ آيَاتِ القُدْرَةِ، وَشَوَاهِدِ العِلْمِ وَالحِكْمَةِ، فَجَالَتْ أَفْكَارُهُمْ في تِلْكَ الآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالأَرْضِيَّةِ، مُعْتَبِرِينَ مُسْتَبْصِرِينَ، فَأَيْقَنُوا بِوُجُودِ رَبٍّ خَالِقٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، تَجَلَّتْ آثَارُ صِفَاتِهِ في مَصْنُوعَاتِهِ وَمُبْدَعَاتِهِ، وَأَشْرَقَتْ أَنْوَارُ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ في مَرَايَا مَخْلُوقَاتِهِ.

فَشَاهَدَ أُولُوا الأَلْبَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الإِلَهِيَّةِ مَسْطُورَةً عَلَى صَفَحَاتِ الكَائِنَاتِ العُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَقَالُوا: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلَاً سُبْحَانَكَ﴾. وَحِينَئِذٍ الْتَزَمُوا عِبَادَةَ هَذَا الإِلَهِ الرَّبِّ العَلِيمِ الحَكِيمِ وَفَاءً بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَازَمُوا ذِكْرَهُ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّهُمْ تَابَعُوا السَّيْرَ بِعُقُولِهِمْ وَأَلْبَابِهِمْ، يَتَجَوَّلُونَ وَيَتَفَكَّرُونَ في أَنْحَاءِ الآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالأَرْضِيَّةِ، وَسَائِرِ الآيَاتِ الآفَاقِيَّةِ، فَانْتَهَوا إلى نَتِيجَةٍ لِهَذَا العَالَمِ، وَأَيِّ نَتِيجَةٍ، وَمَا أَصَحَّهَا وَمَا أَحْكَمَهَا، وَمَا أَصْدَقَهَا مِنْ نَتِيجَةٍ ـ إِنَّهَا نَتِيجَةُ مُقَدِّمَاتِ عَالَمِ الدُّنْيَا كُلِّهِ.

وَهِيَ: أَنَّ هَذَا العَالَمَ البَدِيعَ المُحْكَمَ، وَالمَصْنُوعَ المُتْقَنَ، الذي يَسِيرُ بِنِظَامٍ وَإِحْكَامٍ، فَالسَّمَاءُ في إِبْدَاعٍ وَإِتْقَانٍ، وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالكَوَاكِبُ في سَيْرٍ وَانْتِظَامٍ.

﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

وَفِيهَا الحَبُّ ذُو العَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، وَفِيهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالأَنْهَارُ وَالبِحَارُ، وَالزُّرُوعُ وَالأَشْجَارُ، إلى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الاعْتِبَارِ لِأُولِي الأَبْصَارِ.

فَأَيْقَنُوا أَنَّ هَذَا العَالَمَ المُحْكَمَ المُتْقَنَ، لَا يَجُوزُ في مُقْتَضَيَاتِ العُقُولِ الصَّحِيحَةِ، أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ عَبَثَاً، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِنَاؤُهُ بَاطِلَاً، وَيَسْتَحِيلُ عَقْلَاً أَنْ يَكُونَ لَيْسَ وَرَاءَهُ حِكْمَةٌ عُلْيَا، هِيَ نَتِيجَةٌ لِحِكْمَةِ خَلْقِهِ وَنَشْأَتِهِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنَّ هُنَاكَ نَشْأَةً أُخْرَى وَرَاءَ هَذِهِ النَّشْأَةِ، تَتَجَلَّى فِيهَا جَمِيعُ حِكَمِ النَّشْأَةِ الأُولَى، وَتَظْهَرُ فِيهَا نَتَائِجُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَمِيزُ اللهُ تعالى فِيهَا الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَالصَّالِحَ مِنَ الطَّالِحِ، وَالمُسِيءَ مِنَ المُحْسِنِ، وَيَنْتَقِمُ فِيهَا مِنَ الظَّالِمِ للمَظْلُومِ، وَمِنَ البَاغِي للمَبْغِيِّ عَلَيْهِ.

وَلَوْلَا تِلْكَ النَّشْأَةُ الآخِرَةُ، لَضَاعَتْ حِكْمَةُ خَلْقِ هَذَا العَالَمِ، وَلَكَانَ أَمْرُهُ عَبَثَاً بَاطِلَاً ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلَاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

بَلْ لَوْلَا حَقِّيَّةُ الآخِرَةِ ـ وَهِيَ: الحَاقَّةُ التي تَحِقُّ فِيهَا الحَقَائِقُ ـ لَوْلَا ذَلِكَ لَضَاعَتْ حِكْمَةُ الشَّرَائِعِ الإِلَهِيَّةِ الحَكِيمَةِ القَوِيمَةِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَسَاوَى الحَقُّ وَالبَاطِلُ، وَالعَدْلُ وَالظُّلْمُ، وَالفَسَادُ وَالصَّلَاحُ، وَهَذَا أَمْرٌ بَاطِلٌ مُحَالٌ كَإِحَالَةِ وَبُطْلَانِ تَسَاوِي الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، والعَمَى وَالبَصَرِ، وَالجَهْلِ وَالعِلْمِ، وَالأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ.

وَإلى هَذَا كُلِّهِ نَبَّهَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى العُقَلَاءَ فَقَالَ: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلَاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾.

فَالحِكْمَةُ في الخَلِيقَةِ الكَوْنِيَّةِ، وَالحِكْمَةُ في الشَّرَائِعِ الإِلَهِيَّةِ تَقْضِيَانِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ يَوْمٌ آخِرُ، فِيهِ المَسْؤُولِيَّةُ وَالجَزَاءُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أُولُوا الأَلْبَابِ: ﴿سُبْحَانَكَ﴾. أَيْ: نُنَزِّهُكَ عَنِ اللَّعِبِ وَالعَبَثِ في خَلْقِكَ وَشَرْعِكَ، وَإِنَّمَا خَلَقْتَ الخَلْقَ بِالحَقِّ وَالحِكْمَةِ، التي تَقْتَضِي الجَزَاءَ بِالثَّوَابِ أَو العِقَابِ، وَلَا بُدَ ّفي ذَلِكَ مِنْ جَنَّةٍ وَنَارٍ ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

ثُمَّ إِنَّهُمْ سَأَلُوا اللهَ تعالى الجَنَّةَ التي وَعَدَهُمْ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 23/ شوال /1440هـ، الموافق: 27/حزيران / 2019م