36ـ بر الوالدين :الصدقة عنهما

 

بر الوالدين

36ـ الصدقة عنهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حُقُوقُ الأَبَوَيْنِ كَثِيرَةٌ وَعَظِيمَةٌ، وَمَهْمَا قَدَّمَ الوَلَدُ لِوَالِدَيْهِ فَلَنْ يُوَفِّيَهُمَا حَقَّهُمَا، وَلَكِنْ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ جُلُّهُ.

مِنْ حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا، روى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلَاً قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟

قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَ: فَإِنَّ لِي مِخْرَافَاً (بُسْتَانَاً) وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا.

وروى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَجُلَاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟

قَالَ: «نَعَمْ».

وروى ابن عساكر عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ للهِ صَدَقَةً تَطَوُّعَاً أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ وَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، فَيَكُونَ لِوَالِدَيْهِ أَجْرُهَا، وَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمَا بَعْدَ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَا يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمَا شَيْءٌ».

وروى النسائي عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَرَجَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، وَحَـضَرَتْ أُمَّهُ الْوَفَاةُ بِالمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي.

فَقَالَتْ: فِيمَ أُوصِي؟ المَالُ مَالُ سَعْدٍ؛ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمَ سَعْدٌ.

فَلَمَّا قَدِمَ سَعْدٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ».

فَقَالَ سَعْدٌ: حَائِطُ كَذَا وَكَذَا صَدَقَةٌ عَنْهَا، لِحَائِطٍ سَمَّاهُ.

وفي رِوَايَةٍ لأبي داود عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: «المَاءُ».

قَالَ: فَحَفَرَ بِئْرَاً، وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ سَقْيَ المَاءِ فِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تعالى، روى ابن خُزَيْمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».

فَضْلُ الصَّدَقَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الخَيْرِ التي رَغَّبَ فِيهَا الشَّرْعُ الحَنِيفُ الصَّدَقَةُ، قَالَ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرَّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ».

قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟

قَالَ: «هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالَاً، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ـ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ـ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا، عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُـقْضَى بَيْنَ النَّاسِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَكْثِرُوا مِنَ الصَّدَقَةِ عَنْ آَبائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ، حَيْثُ المَتَاعِبُ وَالأَعْبَاءُ وَالفَقْرُ الشَّدِيدُ، وَالإِنْسَانُ لَا غِنَى لَهُ عَنْ أَخِيهِ، يَشُدُّ عَضُدَهُ، وَيُقَوِّي عَزِيمَتَهُ، وَيُخَفِّفُ شِدَّتَهُ، وَيُفَرِّجُ كَرْبَهُ، طَمَعَاً في الأَجْرِ، وَطَلَبَاً للفَضْلِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَكْثِرُوا مِنَ الصَّدَقَةِ عَنْ وَالِدِيكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى قَدْ يَكُونُونَ في كَرْبٍ، وَقَدْ يَكُونُونَ في شِدَّةٍ، فَلَعَلَّهُ بِتَفْرِيجِ كَرْبِ إِنْسَانٍ مُسْلِمٍ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا يُفَرِّجُ اللهُ تعالى عَنْهُمْ كَرْبَهُمْ وَهُمْ في عَالَمِ البَرْزَخِ، وَيَنْفَعُهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَ العَرْضِ الأَكْبَرِ عَلَى اللهِ تعالى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَصَدَّقُوا عَنْ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، لِأَنَّ هَذَا مِنَ البِرِّ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا؛ لَقَدْ أَنْفَقُوا عَلَيْنَا الكَثِيرَ الكَثِيرَ بِدُونِ مَلَلٍ وَلَا سَآمَةٍ، وَمَعَ الإِنْفَاقِ تَرَكُوا لَنَا التَّرِكَاتِ وَالأَمْوَالَ، أَفَلَا يَسْتَحِقُّونَ الشُّكْرَ عَلَى مَا قَدَّمُوا وَعَلَى مَا تَرَكُوا؛ وَمِنَ الشُّكْرِ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا.

تَصَدَّقُوا عَنْهُمَا، فَيُكْتَبْ لَكُمْ وَلَهُمَا الأَجْرُ، وَدَرِّبُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَى ذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَأَثَّرُونَ بِكُمْ، وَيَفْعَلُونَ فِعْلَكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرَاً وَأَعْظَمَ أَجْرَاً﴾.

وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تُقَدِّمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَاسْتَغِلُّوا نِعْمَةَ المَالِ بِكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ عَنْ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَاغْتَنِمُوا فُرْصَةَ حَيَاتِكُمْ قَبْلَ مَوْتِكُمْ، وَفُرْصَةَ غِنَاكُمْ قَبْلَ فَقْرِكُمْ؛ لِأَنَّ المَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، كَمَا مَاتَ آبَاؤُنَا وَأُمَّهَاتُنَا فَسَوْفَ نَمُوتُ؛ فَـلْنَسْتَحْضِرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

فَإِنْ كُنَّا مِنَ الصَّالِحِينَ فَلْنَتَصَدَّقْ عَنْ أَنْفُسِنَا وَعَنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَلْنَتَقَرَّبْ إلى اللهِ تعالى بِبِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا كَذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 12/ جمادى الثانية /1440هـ، الموافق: 17/ شباط / 2019م