37ـ بر الوالدين: سداد ديونهما

 

بر الوالدين

37ـ سداد ديونهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ حُقُوقَ اللهِ تعالى مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُسَامَحَةِ وَالمُسَاهَلَةِ، وَحُقُوقَ العِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ وَالمُمَاسَكَةِ، وَإِذَا مَاتَ العَبْدُ وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الحُقُوقِ نَحْوَ العِبَادِ فَأَمْرُهُ شَدِيدٌ وَفَظِيعٌ.

روى الحاكم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدَاً حَيْثُ تُوضَعُ الجَنَائِزُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ قِبَلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ خَفَضَ بَصَرَهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ، مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ التَّشْدِيدِ».

قَالَ: فَعَرَفْنَا وَسَكَتْنَا، حَتَّى إِذَا كَانَ الغَدُ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نَزَلَ؟

قَالَ: «فِي الدَّيْنِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قُتِلَ رَجُلٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ عَاشَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الجَنَّةَ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ».

وروى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ».

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ قُلْتَ؟».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ».

وروى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ».

سَدَادُ الدَّيْنِ عَنِ الوَالِدَيْنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ البِرِّ بِالوَالِدَيْنِ قَضَاءُ الدَّيْنِ عَنْهُمَا إِذَا مَاتَا وَلَمْ يَتْرُكَا وَفَاءً، نَعَمْ؛ يَجِبُ عَلَى الأَبْنَاءِ قَضَاءُ الدَّيْنِ عَنْهُمَا إِنْ تَرَكَا مَالَاً قَبْلَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَتْرُكَا مَالَاً، وَكَانَ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَمِنَ البِرِّ وَالوَفَاءِ وَرَدِّ الإِحْسَانِ وَالجَمِيلِ وَالمَعْرُوفِ أَنْ يَـقْضِيَ الأَبْنَاءُ الدَّيْنَ عَنْهُمَا إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ تَأَسِّيَاً بِأَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟

فَخَطَا خُطَىً، ثُمَّ قَالَ: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا المَيِّتُ؟».

قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟».

فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ.

قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَعْلَمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ عَنْ خُطُورَةِ عَدَمِ وَفَاءِ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، لِأَنَّ حُقُوقَ العِبَادِ عَظِيمَةٌ جِدَّاً، وَلِعِظَمِهَا وَخُطُورَتِهَا بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ بِسُؤَالٍ يَشُدُّ بِهِ انْتِبَاهَهُمْ: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟».

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ؟».

قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.

فَقَالَ: «إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَدْ يَتَسَاهَلُ أَحَدُنَا في مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ، وَيَفْرَحُ عِنْدَمَا يَجِدُ مَنْ يُقْرِضُهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ العُقَلَاءِ، شَأْنُ العُقَلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مُتَبَصِّرِينَ في أُمُورِهِمْ قَبْلَ الدَّيْنِ، عَارِفِينَ أَحْوَالَهُمْ وَقُدُرَاتِهِمْ، نَاظِرِينَ لِأَنْفُسِهِمْ في سَاعَةِ الوَفَاءِ، هَلْ عِنْدَهُمُ المَقْدِرَةُ عَلَى السَّدَادِ؟ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ الوَعِيدَ النَّبَوِيَّ، عِنْدَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الوَفَاءِ للوَالِدَيْنِ وَالبِرِّ بِهِمَا وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، سَدَادُ الدُّيُونِ عَنْهُمَا إِنْ لَمْ يَتْرُكُوا مَالَاً، وَإِلَّا فَالأَبَوَانِ في خَطَرٍ عَظِيمٍ وَهُمَا في عَالَمِ البَرْزَخِ، حَيْثُ يُحْمَى عَلَيْهِمَا في قَبْرَيْهِمَا حَتَّى تُسَدَّدَ الدُّيُونُ عَنْهُمَا، وَهُمَا في عَالَمِ يَوْمِ القِيَامَةِ مِنَ المُفْلِسِينَ، وَلَنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى يُرْضُوا خُصُومَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُونُوا حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ بِسَدَادِ الدُّيُونِ عَنْهُمْ إِنْ لَمْ يَتْرُكُوا وَفَاءً، كَمَا كَانُوا حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَيْكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، حَيْثُ قَدَّمُوا كُلَّ مَا في وُسْعِهِمْ مِنْ أَجْلِ سَعَادَتِكُمْ، وَإِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: لَقَدْ كَانُوا عَلَيْنَا قَاسِينَ، وَمَا أَحْسَنُوا إِلَيْنَا وَهُمْ أَحْيَاءٌ، فَمَاذَا نَفْعَلُ؟

أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا قَصَّرَ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ مَعَكُمْ وَأَسَاؤُوا لَا سَمَحَ اللهُ، وَعَصَوُا اللهَ تعالى فِيكُمْ، فَلَا تُقَابِلُوا الإِسَاءَةَ إِلَّا بِالإِحْسَانِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا أَسَاءَ الوَالِدَانِ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى للوَلَدِ فَفَضْلُهُمْ مِنَ البِدَايَةِ كَبِيرٌ وَكَبِيرٌ جِدَّاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ البِرِّ بِالوَالِدَيْنِ سَدَادُ الدُّيُونِ عَنْهُمَا إِنْ لَمْ يَتْرُكوا وَفَاءً لِمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ المَقْدِرَةُ عَلَى ذَلِكَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 19/ جمادى الثانية /1440هـ، الموافق: 24/ شباط / 2019م