38ـبر الوالدين:كثرة العمل الصالح لإدخال السرور عليهما

 

بر الوالدين

38ـ كثرة العمل الصالح لإدخال السرور عليهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ البِرِّ بِالوَالدَيْنِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا المُسَارَعَةُ للعَمَلِ الصَّالِحِ وَالإِكْثَارُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمَاً عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدَاً صَالِحَاً تَرَكَهُ، وَمُصْحَفَاً وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدَاً بَنَاهُ، أَوْ بَيْتَاً لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرَاً أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» رواه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَالوَلَدُ الصَّالِحُ يُكْثِرُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِ أَبَوَيْهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يُلْحِقَ وَالِدَيْهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

عَرْضُ الأَعْمَالِ عَلَى المَوْتَى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَعْمَالُنَا تُعْرَضُ عَلًى آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَهُمْ في عَالَمِ البَرْزَخِ، فَمِنَ البِرِّ بِهِمْ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُنَا صَالِحَةً حَتَّى يُسَرُّوا وَيَسْتَبْشِرُوا بِنَا.

يَقُولُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ﴾. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ أَعْمَالَ الأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الأَمْوَاتِ مِنَ الأَقْرِبَاءِ وَالعَشَائِرِ في البَرْزَخِ، كَمَا قَالَ أَبُو دَاود الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى عَشَائِرِكُمْ وَأَقْرِبَائِكُمْ فِي قُبُورِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَيْرَاً اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِكَ».

ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ الإِمَامِ أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرَاً اسْـتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ، حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا».

وَجَاءَ في التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ للأَصْبَهَانِيِّ، أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى مَوْتَاكُمْ فَيُسَرُّونَ وَيُسَاؤُونَ؛ وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلَاً أُخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ.

وفي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ يَمْقُتَنِي خَالِي عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيتُهُ.

وروى الحَكِيمُ الترمذي عَنْ وَالِدِ عَبْدِ العَزِيزِ بِلَفْظِ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ عَلَى اللهِ تعالى، وَتُعْرَضُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَعَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَيَفْرَحُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ وَتَزْدَادُ وُجُوهُهُمْ بَيَاضَاً وَإِشْرَاقَاً، فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُمْ».

وَجَاءَ في أَسْنَى المَطَالِبِ وفي الحاوي للفتاوى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَفْضَحُوا مَوْتَاكُمْ بِسَيِّئَاتِ أَعْمَالِكُمْ، فَإِنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى أَوْلِيَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ القُبُورِ».

وروى ابْنُ المُبَارَكِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ لَهُ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى بِنْتِ أَخِي ـ وَهِيَ زَوْجَةُ عُثْمَانَ، وَهِيَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ ـ فَاسْتَأْذَنْتُ لَهُ عَلَيْهَا، فَدَخَلَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: كَيْفَ فَعَلَ زَوْجُكِ بِكِ؟.

قَالَتْ: إِنَّهُ لَمُحْسِنٌ فِيمَا اسْتَطَاعَ، ثُمَّ الْتَفَتْ إِلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ: يَا عُثْمَانُ، أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِنَّكَ لَا تَصْنَعُ بِهَا شَيْئَاً إِلَّا جَاءَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ.

قَالَ: وَهَلْ يَأْتِي الأَمْوَاتَ أَخْبَارُ الأَحْيَاءِ؟

قَالَ: نَعَمْ، مَا مِنْ أَحَدٍ لَهُ حَمِيمٌ إِلَّا يَأْتِيهِ أَخْبَارُ أَقَارِبِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرَاً سُرَّ بِهِ، وَفَرِحَ بِهِ، وَهَنِئَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ شَرَّاً ابْتَأَسَ بِذَلِكَ وَحَزِنَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنِ الرَّجُلِ قَدْ مَاتَ، فَيُقَالُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ خُولِفَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الهَاوِيَةِ.

روى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إنَّ أَهْلَ القُبُورِ لَيَتَلَقَّوْنَ المَيِّتَ كَمَا يُتَلَقَّى الرَّاكِبُ يَسْأَلُونَهُ، فَإِذَا سَأَلُوهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ مِمَّنْ قَدْ مَاتَ، فَيَقُولُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ، فَيَقُولُونَ: إنَّا للهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذُهِبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الهَاوِيَةِ.

وروى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: غَزَوْنَا حَتَّى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى المَدِينَةِ مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ إِذَا قَاصٌّ يَقُولُ: مَنْ عَمِلَ عَمَلَاً مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ عُرِضَ عَلَى مَعَارِفِهِ إِذَا أَمْسَى مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلَاً مِنْ آخِرِ النَّهَارِ عُرِضَ عَلَى مَعَارِفِهِ إِذَا أَصْبَحَ مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: أَيُّهَا الْقَاصُّ، انْظُرْ مَا تَقُولُ.

قَالَ: وَاللهِ إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ.

فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَفْضَحْنِي عِنْدَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَلَا عِنْدَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِيمَا عَمِلْتُ بَعْدَهُمَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا الإِسْرَاعُ إلى العَمَلِ الصَّالِحِ وَالإِكْثَارُ مِنْهُ، لِأَنَّ هَذَا يَنْفَعُ الوَالِدَيْنِ في قَبْرِهِمَا، وَيُدْخِلُ عَلَيْهِمَا الفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالغِبْطَةَ، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ بَيْنَ المَوْتَى.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 26/ جمادى الثانية /1440هـ، الموافق: 3/ آذار / 2019م