7ـ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾ : بئس دار يباع فيها الكريم ابن الكريم

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

7ـ بئس دار يباع فيها الكريم ابن الكريم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ العِبَرِ التي تُعَلِّمُنَا إِيَّاهَا قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّ هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَعَرَضٌ حَائِلٌ، قَدْ يُبَاعُ فِيهَا الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ.

قَالَ تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾.

بِئْسَ دَارٌ يُبَاعُ فِيهَا الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِئْسَ دَارٌ يُبَاعُ فِيهَا الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ، فَإِذَا كَانَتْ طَبِيعَةُ هَذِهِ الدَّارِ هَكَذَا، فَلَا يَلِيقُ بِالإِنْسَانِ العَاقِلِ فَضْلَاً عَنِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ أَنْ يَحْزَنَ عَلَيْهَا، أَو يَتَأَسَّفَ عَلَيْهَا، وَخَاصَّةً إِذَا هُضِمَتْ فِيهَا حُقُوقُهُ، وَمَا عَرَفَ النَّاسُ فِيهَا قَدْرَهُ.

لِأَنَّ المُهِمَّ أَنْ يَكُونَ العَبْدُ عِنْدَ اللهِ غَالِيَاً، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ اللهِ غَالِيَاً فَمَاذَا يَـضُرُّهُ إِعْرَاضُ المُعْرِضِينَ عَنْهُ؟ وَمَاذَا يَضُرُّهُ إِنْ لَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ قَدْرَهُ مَا دَامَ عِنْدَ اللهِ تعالى غَالِيَاً؟

وَهَذَا المَوْقِفُ يُذَكِّرُنَا بِمُلَاطَفَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ، اسْمُهُ زَاهِرٌ، الذي قَالَ فِيهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ زَاهِرَاً بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ».

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرَاً، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الهَدِيَّةَ مِنَ البَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ زَاهِرَاً بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ».

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلَاً دَمِيمَاً، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ؛ فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا؟

فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟».

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَاً وَاللهِ تَجِدُنِي كَاسِدَاً.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ ـ أَوْ قَالَ: لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ ـ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يُعَلِّمُنَا قَوْلُ اللهِ تعالى في حَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾. أَنَّهُ إِذَا جَاءَتْ سَاعَةٌ مَا عَرَفَ فِيهَا أَحَدٌ قَدْرَكَ، فَسَوْفَ يُهَيِّئُ اللهُ تعالى مَنْ يَعْرِفُ قَدْرَكَ.

فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِيعَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ جَمَالِ خَلْقٍ وَخُلُقٍ، وَمَعَ مَا فِيهِ مِنْ حَيَاءٍ وَعِفَّةٍ وَدِينٍ وَصَبْرٍ، مَعَ مَا يُهَيِّئُهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَهُ لِيَكُونَ نَبِيَّاً وَعَزِيزَ مِـصْرَ، وَمَا عَرَفَ قَدْرَهُ البَائِعُ.

قَدَرٌ في ظَاهِرِهِ مُرٌّ، وَلَكِنْ تَدْبِيرُ اللهِ تعالى خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِ العِبَادِ، فَإِذَا بِعَزِيزِ مِـصْرَ يَعْرِفُ قَدْرَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

مَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا؟

الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ يُلْقَى في الجُبِّ، ثُمَّ يُبَاعُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، نَعَمْ؛ دَرسٌ عَمَلِيٌّ حَتَّى لَا يَبْكِيَ أَحَدُنَا عَلَى هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا، عَرَفَ النَّاسُ قَدْرَهُ أَمْ لَا، المُهِمُّ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَ اللهِ تعالى.

﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا المَوْقِفُ الذي قَالَ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾. يُعَلِّمُنَا أَنَّهُ مَنْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلى الخَلْقِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُضَيِّعُهُ، بَلْ هُوَ اللَّطِيفُ بِهِ.

انْظُرْ إلى هَذَا اللُّطْفِ بِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنْ غَيَابَةِ الجُبِّ وَظُلْمَتِهِ، إلى بَيْتِ عَزِيزِ مِصْرَ حَيْثُ يُرَبَّى فِيهِ بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ تعالى وَلُطْفٍ.

يُعَلِّمُنَا هَذَا المَوْقِفُ بِأَنَّ اللهَ تعالى اللَّطِيفَ يُخْفِي الأَشْيَاءَ في أَضْدَادِهَا، فَمَنْ كَانَ يُصَدِّقُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي أُلْقِيَ في الجُبِّ، ثُمَّ بِيعَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، وَكَانَ القَوْمُ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، سَيَكُونَ عَزِيزَ مِصْرَ.

هَذَا المَوْقِفُ يُعَلِّمُنَا بِأَنْ لَا نَتَعَلَّقَ بِالدُّنْيَا وَلَا بِأَهْلِهَا إِقْبَالَاً أَو إِدْبَارَاً، فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَا ضَاقَ صَدْرُهُ عِنْدَمَا بِيعَ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، وَمَا اغْتَرَّ ـ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ـ عِنْدَمَا أَصْبَحَ عَزِيزَ مِصْرَ، بَلْ قَالَ في نِهَايَةِ المَطَافِ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.

هَذَا المَوْقِفُ يَجْعَلُ هَمَّ العَبْدِ المُؤْمِنَ رِضَا مَوْلَاهُ،وَ يَجْعَلُ هَمَّهُ الآخِرَةَ وَالمَنْزِلَةَ عِنْدَ اللهِ تعالى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ تعالى جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَلَا يَلِيقُ بِالإِنْسَانِ المُسْلِمِ أَنْ يَتَأَسَّفَ عَلَيْهَا، أَو يَحْزَنَ لِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْهُ، أَو لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِم لِمَنْزِلَتِهِ، فَالمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ تعالى لِأَهْلِ التَّقْوَى.

تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ﴾. مَنِ الذي اشْتَرَاهُ؟ عَزِيزُ مِصْرَ.

لَمْ يَذْكُرْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ هُنَا بِلَفْظِ العَزِيزِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ أَعَزَّهُ اللهُ تعالى بِطَاعَتِهِ، بَلْ قَالَ: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ﴾.

وَمِمَّـــا زَادَنِي شَـرَفَـاً وَتِـيـهَـاً   ***   وَكِدْتُ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ: يَا عِبَادِي   ***   وَأَنْ صَــيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا

نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا إِيمَانَاً يُبَاشِرُ قُلُوبَنَا. آمين.

**      **    **

الاثنين: 27/ جمادى الآخر /1440 هـ، الموافق: 4/ آذار / 2019م