39ـ بر الوالدين: المحافظة على اسم الوالدين

 

بر الوالدين

39ـ المحافظة على اسم الوالدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ حُقُوقَ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، أَنْ يُحَافِظَ عَلَى اسْمِ وَالِدَيْهِ مِنَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ بِشَتَّى صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، سَوَاءٌ مِنْ أَنْفُسِهِمَا حِينَ يَفْعَلُ الوَلَدُ فِعْلَاً يُغْضِبُ وَالِدَيْهِ، فَيَسُبَّانِ ذَاتَهُمَا، فَيَكُونُ الوَلَدُ سَبَبَاً في هَذَا السَّبِّ وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

أَو عِنْدَمَا يُسِيءُ الوَلَدُ إلى أَحَدٍ مِنَ الخَلْقُ، فَيَسُبُّ أَحَدُهُمْ وَالِدَيْهِ أَو كِلَيْهِمَا، أَو يُـسِيءُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَيَسُبُّهُ بِوَالِدَيْهِ، فَيَسُبُّ وَالِدَيْهِ.

المُحَافَظَةُ عَلَى اسْمِ الوَالِدَيْنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُحَافَظَةَ عَلَى اسْمِ الوَالِدَيْنِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، مِنْ أَعْظَمِ الأَدِلَّةِ وَأَكْبَرِهَا عَلَى البِرِّ بِهِمَا، فَالبَارُّ هُوَ الذي يَسْتَجْلِبُ لَهُمَا الرَّحْمَةَ وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، عَلَى العَكْسِ مِنَ العَاقِّ الذي يَسْتَجْلِبُ لَهُمَا السَّبَّ وَاللَّعْنَ وَالشَّتْمَ، وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا.

وَمِنْ خِلَالِ هَذَا المُنْطَلَقِ، وَجَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ إلى حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ، روى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا مَعَهُ غُلَامٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: «مَنْ هَذَا؟».

قَالَ: أَبِي.

قَالَ: «فَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ، وَلَا تَسْتَسِبَّ لَهُ (أَيْ: لَا تَفْعَلْ فِعْلَاً يَتَعَرَّضُ فِيهِ لِأَنْ يَسُبَّكَ أَبُوكَ زَجْرَاً لَكَ وَتَأْدِيبَاً عَلَى فِعْلِكَ القَبِيحِ) وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ، وَلَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ».

وروى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي المُخَارِقِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرَجُلٍ مُغَيَّبٍ فِي نُورِ العَرْشِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا، مَلَكٌ؟ قِيلَ: لَا، قُلْتُ: نَبِيٌّ؟ قِيلَ: لَا، قُلْتُ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ كَانَ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ رَطِبَاً مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَقَلْبُهُ مُعَلَّقَاً بِالمَسَاجِدِ، وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لِوَالِدَيْهِ قَطُّ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَرَّ قَسَمَهُمَا، وَقَضَى دَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لَهُمَا كُتِبَ بَارَّاً، وَإِنْ كَانَ عَاقَّاً، وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ قَسَمَهُمَا، وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَهُمَا، وَاسْتَسَبَّ لَهُمَا كُتِبَ عَاقَّاً، وَإِنْ كَانَ بَارَّاً فِي حَيَاتِهِمَا».

إِيذَاءُ الوَالِدَيْنِ أَمْرٌ شَنِيعٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ إِيذَاءَ الوَالِدَيْنِ أَمْرٌ شَنِيعٌ وَشَنِيعٌ جِدَّاً، وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الإِيذَاءِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ سَبَبَاً لِلَعْنِ وَالِدَيْهِ وَشَتْمِهِمَا.

روى الإمام مسلم عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ».

فَهُنَاكَ مَنْ يَلْعَنُ وَالِدَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ ذَاتِهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، وَهَذَا اللَّعْنُ مِنْ أَقْبَحِ القَبِيحِ، وَهُوَ أَمْرٌ شَنِيعٌ، وَقَدْ سَمِعْنَا مَنْ يَلْعَنُ وَالِدَيْهِ وَهُمَا عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

وَهُنَاكَ مَنْ يَكُونُ سَبَبَاً لِلَعْنِ وَالِدَيْهِ، كَأَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبَّ أَبَاهُ، وَيَسُبَّ أُمَّهُ فَيَسُبَّ أُمَّهُ، فَيَكُونُ هُوَ المُتَسَبِّبُ في إِعَادَةِ اللَّعْنَةِ وَالسَّبِّ عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَمَا سَبَّ أَبَوَيِ الآخَرَ أَخَذَتِ الآخَرَ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَسَبَّ أَبَوَيْهِ، فَهَذَا السَّابُّ أَعَادَ السَّبَّ عَلَى أَبَوَيْهِ بِسَبَبِهِ هُوَ.

وَلِهَذَا حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَجَعَلَ هَذَا الأَمْرَ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ، روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ».

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟

قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ».

﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؟:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ البِرِّ بِالوَالِدَيْنِ وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ سَبَبَاً في جَلْبِ الرَّحْمَةِ لَهُمَا، وَأَنْ يُحَافِظَ عَلَى اسْمِهِمَا فَلَا يُذْكَرَانِ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَإِلَّا كَانَ عَاقَّاً لَهُمَا.

لِيَتَذَكَّرِ الأَبْنَاءُ إِحْسَانَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَلْيَتَذَكَّرُوا مَعْرُوفَهُمَا، وَلْيَتَذَكَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؟

أَيُّهَا الأَبْنَاءُ، وَكُلُّنَا أَبْنَاءٌ، تَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفَاً فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» رواه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَهَلْ هُنَاكَ مَنْ أَسْدَى إِلَيْنَا مَعْرُوفَاً أَكْثَرَ مِنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا؟ رَبَّوْنَا صِغَارَاً، وَآثَرُونَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كِبَارَاً، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ سَبَبَاً في وُجُودِنَا في الحَيَاةِ.

يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلَاثِ آيَاتٍ لَا يُقْبَلُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا، أَوَّلُهَا: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾. فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ.

وَالثَّانِي: قَوْله :تَعَالَى ﴿اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾. فَمَنْ شَكَرَ اللهَ وَلَمْ يَشْكُرْ وَالِدَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.

وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾. فَمَنْ أَطَاعَ اللهَ وَلَمْ يُطِعِ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. كذا في مَوْسُوعَةِ الأَخْلَاقِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنَ الأَوْلَادِ مَنْ هُمْ رَحْمَةٌ عَلَى آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَمِنَ الأَوْلَادِ مَنْ هُمْ شَقَاءٌ وَعَنَاءٌ عَلَى آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَمِنَ الأَوْلَادِ مَنْ يَتَنَعَّمُ الأَبَوَانِ في قَبْرَيْهِمَا بِدَعَوَاتِهِمُ الصَّالِحَةِ وَأَعْمَالِهِمُ الخَيِّرَةِ التي تَجْلِبُ الرَّحَمَاتِ لَهُمَا وَهُمَا في قَبْرَيْهِمَا.

فَكُلَّمَا رُئِيَ هَؤُلَاءِ الأَوْلَادُ وَشُوهِدَتْ أَعْمَالُهُمُ الطَّيِّبَةُ، وَأَخْلَاقُهُمُ الحَسَنَةُ، وَمُعَامَلَتُهُمُ الجَيِّدَةُ، تُرُحِّمَ عَلَى آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَكَثُرَ الدُّعَاءُ لَهُمْ.

مَا أَعْظَمَهَا مِنْ نِعْمَةٍ، فَالآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَتُصَبُّ عَلَيْهِمُ الرَّحَمَاتُ بِحُسْنِ سِيرَةِ الأَوْلَادِ.

فَلْنَكُنْ يَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ سَبَبَاً لِجَلْبِ الرَّحَمَاتِ لِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَأَنْ نُحَافِظَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ مِنْ أَيِّ سَبٍّ أَو شَتْمٍ أَو لَعْنٍ، وَذَلِكَ بِالأَعْمَالِ الطَّيِّبَةِ وَالأَخْلَاقِ الحَسَنَةِ.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 4/ رجب /1440هـ، الموافق: 10 / آذار / 2019م