14ـ لماذا السجن بعد البراءة؟

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾

14ـ لماذا السجن بعد البراءة؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الابْتِلَاءُ، فَهَا هُوَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُبْتَلَى بِإِخْوَتِهِ أَوَّلَاً، ثُمَّ يُبْتَلَى بِالرِّقِّ وَالعُبُودِيَّةِ ثَانِيَاً، ثُمَّ يُبْتَلَى بِفِتْنَةِ الشَّهْوَةِ وَالنِّسَاءِ ثَالِثَاً، ثُمَّ يُبْتَلَى بِفِتْنَةِ السِّجْنِ رَابِعَاً، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.

فَامْرَأَةُ العَزِيزِ لَحِقَتْ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ، وَهُوَ يُسَابِقُهَا إلى البَابِ للخُرُوجِ، وَكَانَتِ المُفَاجَأَةُ بِزَوْجِ هَذِهِ المَرْأَةِ، وَظَهَرَ كَيْدُهَا وَقَالَتْ: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءَاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

فَالابْتِلَاءُ سُنَّةٌ جَارِيَةٌ، فَمَا مِنْ نَبِيٍّ وَلَا رَسُولٍ عَلَى الإِطْلَاقِ إِلَّا وَابْتُلِيَ، مِنْ لَدُنْ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَنَحْنُ مَنْ نَحْنُ حَتَّى لَا نَتَعَرَّضَ للمِحَنِ وَلَا نُبْتَلَى؟ فَالابْتِلَاءُ سُنَّةٌ جَارِيَةٌ ثَابِتَةٌ، لِتَمْحِيصِ الصَّفِّ، وَتَمْيِيزِ الخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَإِنِّي أَرْجُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لِشَبَابِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْهُمْ هَذَا الأَمْرَ، وَأَنْ لَا يَظُنُّوا أَنَّ الابْتِلَاءَ لِأَهْلِ الحَقِّ وَالاسْتِقَامَةِ إِنَّمَا هُوَ غَضَبٌ مِنَ اللهِ تعالى عَلَى أَهْلِ الحَقِّ، الابْتِلَاءُ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.

لِمَاذَا سَجَنُوهُ بَعْدَ ظُهُورِ بَرَاءَتِهِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَمْرٌ جَائِرٌ في حَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالصَّادِرُ مِنِ امْرَأَةِ العَزِيزِ ابْتِدَاءً، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْهَا: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءَاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؟

ثُمَّ جَاءَ القَرَارُ مِنْهُمْ جَمِيعَاً كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.

وَهُنَا يَرِدُ السُّؤَالُ: لِمَاذَا سَجَنُوهُ بَعْدَ ظُهُورِ بَرَاءَتِهِ؟ لِمَاذَا السِّجْنُ مَعَ كُلِّ هَذَا؟ الجَوَابُ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ:

مِنْ هَذِهِ الأَسْبَابِ قُوَّةُ سَيْطَرَةِ النِّسَاءِ، وَتَأْثِيرِهِنَّ عَلَى الرِّجَالِ، مِنْ قُوَّةِ كَيْدِهِنَّ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتِ المَرْأَةُ تَمْلِكُ القَرَارَ.

وَفي هَذَا المَوْقِفِ كَانَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ هِيَ صَاحِبَةَ القَرَارِ، وَمَا كَانَ مِنْ زَوْجِهَا الذي هُوَ عَزِيزُ مِصْرَ إِلَّا أَنْ يُنَفِّذَ أَمْرَهَا، فَهُوَ عَزِيزُ مِصْرَ إِلَّا عَلَى زَوْجَتِهِ فَهِيَ الآمِرَةُ وَالنَّاهِيَةُ حَتَّى عَلَيْهِ.

بِهَذَا القَرَارِ الظَّالِمِ أَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوا خَبَرَ هَذِهِ القَضِيَّةِ وَيُنْهُوْهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طُغْيَانٌ وَاسْتِكْبَارٌ، لِذَلِكَ جَاءَ الحُكْمُ: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾. وَقْتٌ مُطْلَقٌ وَغَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزَمَنٍ، لِأَنَّ التُّهْمَةَ مَا ثَبَتَتْ، لِأَنَّهُ لَو ثَبَتَتْ لَقُدِّمَ إلى المَحْكَمَةِ وَتُفْرَضُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَهَذَا فِعْلُ الظَّالِمِ الذي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُدِينَ خَصْمَهُ.

السِّجْنُ مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السِّجْنُ مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ ـ وَنَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ ـ وَقَدْ يَجْعَلُهُ اللهُ تعالى مِنْحَةً لِمَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ تعالى فَلَا يَرَى فِيهِ المَسْجُونُ غَصَاصَةً، بَلْ يَرَاهُ خَيْرَاً مِمَّا دُعِيَ إِلَيْهِ، كَمَا حَصَلَ مَعَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عِنْدَمَا قَالَ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾.

نَعَمْ لَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ المِحْنَةُ مِنْحَةً وَشَرَفَاً لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ سَلَامَةِ دِينِهِ، لِذَلِكَ رَأَيْنَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُطْمَئِنَّاً عَلَى صِحَّةِ مَوْقِفِهِ وَسَلَامَةِ جَانِبِهِ، لَقَدْ كَانَ يَحْتَسِبُ كُلَّ ثَانِيَةٍ لَهُ فِيهَا الأَجْرُ العَظِيمُ، وَكَانَ قَوِيَّاً ثَابِتَاً وَمُعْتَزَّاً بِهَذَا السِّجْنِ الذي هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِجْنِ الهَوَى وَالشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَةِ.

لَقَدْ كَانَ قَوِيَّاً وَثَابِتَاً بَعْدَ سَنَوَاتٍ مِنْ سِجْنِهِ، حَتَّى عِنْدَمَا جَاءَهُ رَسُولُ المَلِكِ لِكَيْ يُخْرِجَهُ، قَالَ بِكُلِّ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ وَافْتِخَارٍ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا   ***   وَتَسْلَمَ أَعْرَاضٌ لَنَا وَعُقُولُ

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَاجَهَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْتِلَاءً عَظِيمَاً، تُمُثِّلَ في تِلْكَ الإِغْرَاءَاتِ التي لَا قِبَلَ لِشَابٍّ بِهَا، وَفي تِلْكَ الضُّغُوطَاتِ وَالتَّهْدِيدَاتِ، وَلَمَّا حَاصَرَتْهُ الدَّوَاعِي وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الفِتْنَةَ لَجَأَ إلى اللهِ تعالى أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ البَلَاءَ، وَيُبْعِدَ عَنْهُ السُّوءَ فَقَالَ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾.

مَا دَامَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ صَرَّحَتْ بِقَوْلِهَا للنِّسْوَةِ: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾. فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُسْجَنَ وَلَا يَقَعَ في تِلْكَ الفَاحِشَةِ.

وَمِنْ ظُلْمِهِمْ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ بَرَاءَتُهُ لَدَيْهِمْ رَأَوْا أَنْ يَجْعَلُوهُ في السِّجْنِ، بَدَلَاً مِنْ إِكْرَامِهِ ـ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ ـ وَتَرَكُوا المُسِيءَ يَسْرَحُ وَيَمْرَحُ.

نَعَمْ بَدَا لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوهُ مِنْ أَجْلِ دَفْنِ القَضِيَّةِ التي فَاحَتْ رَائِحَتُهَا النَّتِنَةُ، وَتَنَاوَلَتِ الأَلْسُنُ سِيرَتَهَا القَبِيحَةَ، لَقَدْ حَاوَلُوا إِخْفَاءَ جَرِيمَةِ امْرَأَةِ العَزِيزِ بِسِجْنِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَعَلَّ الذينَ تَكَلَّمُوا في حَقِّ امْرَأَةِ العَزِيزِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُمُ اتِّهَامُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ هُوَ الذي حَاوَلَ مُرَاوَدَةَ امْرَأَةِ العَزِيزِ عَنْ نَفْسِهَا.

لَكِنَّهَا خُطَّةٌ فَاشِلَةٌ، لِأَنَّ شَمْسَ الحَقِيقَةِ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا، وَشَمْسُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُشْرِقَةٌ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا.

أَيْنَ عَقْلُ عَزِيزِ مِصْرَ؟ هَلْ هَذِهِ المَرْأَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، وَسَيِّدَةً في قَصْرِهِ، بَلْ بِكُلِّ صَرَاحَةٍ هَلْ يَصْلُحُ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَزِيزَ مِصْرَ وَهَذَا حَالُهُ في بَيْتِهِ؟ مَنْ ضَيَّعَ حَقَّ بَيْتِهِ فَهُوَ لِسِوَاهُ أَضْيَعُ.

نَعَمْ قَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾. لِأَنَّهُ في السِّجْنِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ في السِّجْنِ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، أَمَّا في القَصْرِ كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ المَرْأَةِ.

وَمَا كَانَ نَادِمَاً عَلَى سِجْنِهِ، بَلْ كَانَ رَاضِيَاً وَفَرِحَاً وَمَسْرُورَاً، لِذَلِكَ مَا قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الذي قَالَ لَهُ ابْتِدَاءً: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾. مَا قَالَ لَهُ: لِمَاذَا تَأَخَّرْتَ عَلَيَّ، بَلْ قَالَ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.

وَهُنَا قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ: ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾. وَقَالَتِ النِّسْوَةُ: ﴿حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾. فَخَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرْفُوعَ الهَامَةِ، عَزِيزَ الجَانِبِ، بَرِيءَ السَّاحَةِ، عِرْضُهُ أَطْهَرُ مِنَ السَّحَابَةِ في سَمَائِهَا.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 18/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 22/ تموز / 2019م