6ـ أحكام الآبار (2)

الفقه الإسلامي

6ـ أحكام الآبار (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اتَّفَقَ فُقَهَاءُ المَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الآْدَمِيَّ إِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ طَاهِرَاً مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَكَانَ المَاءُ كَثِيرَاً، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يُعْتَبَرُ مُسْتَعْمَلَاً، وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ طَهُورِيَّتِهِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، الآدَمِيُّ طَاهِرٌ حَيَّاً وَمَيِّتًاً، وَأَنَّ مَوْتَ الآْدَمِيِّ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا إِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْمَاءِ تَغَيُّرَاً فَاحِشَاً؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّهِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْل؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الآدَمِيَّةِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ نَزْحَ كُل مَاءِ الْبِئْرِ بِمَوْتِ الآدَمِيِّ فِيهِ، إِذْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ بِمَوْتِ سِنَّوْرَيْنِ أَوْ كَلْبٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ آدَمِيٍّ؛ وَمَوْتُ الْكَلْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ انْغَمَسَ وَأُخْرِجَ حَيَّاً يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ.

وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ: وَيُحْتَمَل أَنْ يُنَجِّسَ الْكَافِرُ الْمَاءَ بِانْغِمَاسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ.

وَإِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ مَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ، بِأَنْ كَانَ جُنُبَاً أَوْ مُحْدِثَاً، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرَاً أَوْ قَلِيلَاً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى بِالانْغِمَاسِ رَفْعَ الْحَدَثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِحْضَارِ الدَّلْوِ.

فَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ مَعِينَاً ـ أَيْ مَاؤُهُ جَارٍ ـ فَإِنَّ انْغِمَاسَ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ لَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ؛ وَهُوَ اتِّجَاهُ مَنْ قَال مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل طَاهِرٌ لِغَلَبَةِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَل، أَوْ لِأَنَّ الانْغِمَاسَ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلَاً، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ انْغِمَاسِ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مَعِينَاً، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا يَغْتَسِل أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» رواه الإمام مسلم.

وَهُوَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ. وَإِلَى هَذَا يَتَّجِهُ مَنْ يَرَى مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ بِالانْغِمَاسِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلَاً، وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل نَجِسٌ يُنْزَحُ كُلُّهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ دَلْوَاً لَوْ كَانَ مُحْدِثَاً، وَيُنْزَحُ جَمِيعُهُ لَوْ كَانَ جُنُبَاً أَوْ كَافِرَاً؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْكَافِرِ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، إِلَّا إِذَا تَثَبَّتْنَا مِنْ طَهَارَتِهِ وَقْتَ انْغِمَاسِهِ.

وَإِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ قَلِيلَاً وَانْغَمَسَ فِيهِ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ فَقَطْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلَاً؛ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ؛ وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ تَرْمِزُ لَهَا كُتُبُهُمْ (مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ جحط) وَيَرْمِزُونَ بِالْجِيمِ إِلَى مَا قَالَهُ الإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنِ الْبَعْضِ بِأَوَّل الْمُلَاقَاةِ، وَالرَّجُل نَجِسٌ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الأَعْضَاءِ، أَوْ لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل، وَيَرْمِزُونَ بِالْحَاءِ لِرَأْيِ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَنَّ الرَّجُل عَلَى حَالِهِ مِنَ الْحَدَثِ، لِعَدَمِ الصَّبِّ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، وَعَدَمِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ. وَيَرْمِزُونَ بِالطَّاءِ لِرَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ الرَّجُل طَاهِرٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ، وَكَذَا الْمَاءُ، لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ.

أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، كَانَ الْمَاءُ كُلُّهُ مُسْتَعْمَلَاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَبْقَى الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَلاَ يُرْفَعُ الْحَدَثُ؛ وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلَاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ تَدَلَّكَ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّدَلُّكَ فِعْلٌ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ.

أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ إِنْسَانٌ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَوْ أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لاَ يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.

غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ، إِلَّا بِبَوْل الآْدَمِيِّينَ أَوْ عَذِرَتِهِمُ الْمَائِعَةِ؛ وَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِل فِيهِ» رواه الشيخان.

وَكَذَلِكَ إِذَا مَا سَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، وَفِي مُقَابِل الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ.

المِقْدَارُ الوَاجِبِ نَزْحُهُ مِنَ البِئْرِ:

أولاً: يَنْزَحُ مَاءُ البِئْرِ في الحَالَاتِ التَّالِيَةِ:

1ـ مَوْتُ الآدَمِيِّ.

2ـ مَوْتُ حَيَوَانٍ كَبِيرٍ مِثْلِ الكَلْبِ أَو الشَّاةِ وَنَحْوِهِمَا.

3ـ إِذَا انْتَفَخَ الحَيَوَانُ في البِئْرِ أَو تَفَسَّخَ سَوَاءٌ أَكَانَ الحَيَوَانُ صَغِيرَاً أَو كَبِيرَاً، وَإِذَا تَعَذَّرَ نَزْحُ البِئْرِ فَتُنْزَحُ مِئَتَا دَلْوٍ وُجُوبَاً، وَمِئَةٌ اسْتِحْبَابَاً.

ثانياً: يُنْزَحُ مِنَ البِئْرِ أَرْبَعُونَ دَلْوَاً وُجُوبَاً، وَتُضَافُ عِشْرُونَ اسْتِحْبَابَاً، إِذَا كَانَ الحَيَوَانُ بِحَجْمٍ مُتَوَسِّطٍ، مِثْلِ الهِرَّةِ أَو الدَّجَاجَةِ أَو الحَمَامِةِ.

ثالثاً: يُنْزَحُ مِنَ البِئْرِ عِشْرُونَ دَلْوَاً وُجُوبَاً، وَعَشْرٌ اسْتِحْبَابَاً، إِذَا مَاتَ فِيهَا حَيَوَانٌ صَغِيرٌ مِثْلُ العُصْفُورِ وَالفَأْرِ وَنَحْوِهِمَا.

حَجْمُ الدَّلْوِ الوَاجِبِ النَّزْحُ بِهَا:

قِيلَ الدَّلْوُ الذي يَسَعُ مِقْدَارَ صَاعٍ، أَيْ أَرْبَعة ليترات تَقْرِيبَاً، وَقِيلَ: المُعْتَبَرُ في كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا الذي يُسْتَقَى بِهِ مِنْهَا.

وَلَو نُزِحَ بِمِضَخَّةٍ أَو دَلْوٍ عَظِيمٍ، المِقْدَارُ الوَاجِبُ نَزْحُهُ صَحَّ، لِحُصُولِ المَقْصُودِ.

إِذَا وُجِدَ في المَاءِ حَيَوَانٌ وَلَمْ يُعْلَمْ وَقْتُ وُقُوعِهِ:

فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ المَاءِ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، احْتِيَاطَاً، إِذَا كَانَ الحَيَوَانُ غَيْرَ مُنْتَفِخٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الحَيَوَانُ مُنْتَفِخَاً، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ المَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، لِأَنَّ الانْتِفَاخَ وَالتَّفَسُّخَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَادُمِ العَهْدِ، فَيَلْزَمُ إِعَادَةُ صَلَوَاتِ تِلْكَ المُدَّةِ، إِذَا تَطَهَّرُوا مِنْهَا مِنْ حَدَثٍ أَصْغَرَ أَو حَدَثٍ أَكْبَرَ.

كَمَا يَجِبُ غَسْلُ الثِّيَابِ التي أَصَابَهَا مَاءُ البِئْرِ خِلَالَ تِلْكَ المُدَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدْ فَقَالَا: يُحْكَمُ بِالنَّجَاسَةِ مِنْ وَقْتِ العِلْمِ بِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُمْ إِعَادَةُ شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَلَا غَسْلُ مَا أَصَابَهُ مَاؤُهَا في الزَّمَانِ المَاضِي، حَتَّى يَتَحَقَّقُوا مَتَى وَقَعَتْ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 26/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 29/تموز / 2019م