41ـ مفسدات الأخوة (2)

41ـ مفسدات الأخوة (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأُخُوَّةُ في اللهِ تعالى نِعْمَةٌ امْتَنَّ اللهُ تعالى بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً﴾.

وَهِيَ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَحَبَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ للعَبْدِ، روى الحاكم عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ».

وَالأُخُوَّةُ في اللهِ تعالى أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ» رواه الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَى المُتَحَابِّينَ أَنْ جَعَلَ اللهُ تعالى المُحِبَّ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَالمُتَحَابُّونَ في اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُمْ في ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ القِيَامَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ المُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي».

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تعالى المَحَبَّةَ في اللهِ تعالى وَسِيلَةً لِكَسْبِ حَلَاوَةِ الإِيمَانِ، روى الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».

وَهِيَ سَبَبٌ كَذَلِكَ لِكَمَالِ الإِيمَانِ، روى الحاكم عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ وَهُوَ ابْنُ أَنَسٍ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ، وَأَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَنْكَحَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ».

وَمَنْ أَحَبَّ أَخَاهُ أَكْثَرَ مِنْ أَخِيهِ نَالَ الأَفْضَلِيَّةَ، روى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا تَحَابَّ اثْنَانِ فِي اللهِ، إِلَّا كَانَ أَفْضَلَهُمَا أَشَدُّهُمَا حُبَّاً لِصَاحِبِهِ».

مُفْسِدَاتُ الأُخُوَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ذَكَرْنَا في اللِّقَاءِ السَّابِقِ بِأَنَّ العَبْدَ إِذَا أُكْرِمَ بِنِعْمَةِ الأُخُوَّةِ في اللهِ تعالى فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَرِيصَاً عَلَيْهَا، لِمَا فِيهَا مِنْ ثَمَرَاتٍ وَخَيْرَاتٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ.

وَمِمَّا يُفْسِدُ هَذِهِ الأُخُوَّةَ الطَّمَعُ في الدُّنْيَا بِمَا فِي أَيْدِي مَنْ تُحِبُّ مِنْ إِخْوَتِكَ، وَالمَعَاصِي مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ في فَسَادِ الأُخُوَّةِ في اللهِ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ الالْتِزَامِ بِالآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ في مُحَادَثَةِ الآخَرِينَ مِمَّنْ أَحْبَبْتَهُمْ في اللهِ تعالى.

هَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ تُفْسِدُ عَلَى الأَخِ مَوَدَّةَ أَخِيهِ.

رابعاً: المُبَالَغَةُ في المُزَاحِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُفْسِدَاتِ هَذِهِ الأُخُوَّةِ المُبَالَغَةُ في المُزَاحِ إلى حَدِّ الجُرْأَةِ وَخَاصَّةً مَعَ أَهْلِ الفَضْلِ، لِذَلِكَ قَالَ الحُكَمَاءُ: كَثْرَةُ المُزَاحِ تُجَرِّئُ السُّفَهَاءُ، وَتُسْقِطُ الهَيْبَةَ.

نَعَمْ لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ، وَلَكِنْ كَانَ مُزَاحُهُ خَفِيفَاً، وَمُلَائِمَاً، وَكَانَ صِدْقَاً، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ جَرْحُ شُعُورٍ، وَلَا اسْتِهَانَةٌ، وَلَا تَحْقِيرٌ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَثْرَةُ المُزَاحِ تُؤَدِّي أَحْيَانَاً إلى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، وَنَشْرِ البَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَمَا أَدَّى إلى ذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعَاً، لِأَنَّ دَرْءَ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ المَصَالِحِ، وَكَثْرَةُ المُزَاحِ سَبَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أَسْبَابِ اصْطِيَادِ الشَّيْطَانِ لِنَزْغِ العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ بَيْنَ الأُخُوَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾.

خامساً: المِرَاءُ وَالجِدَالُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُفْسِدَاتِ هَذِهِ الأُخُوَّةِ المِرَاءُ وَالجَدَلُ، وَخَاصَّةً الجَدَلَ العَقِيمَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَبِتَغْرِيرٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ كُلُّ وَاحِدٍ يُدَافِعُ عَنْ ذَاتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَبِذَلِكَ تَزُولُ الأُخُوَّةُ، وَتَذْهَبُ العِشْرَةُ، وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ» رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَالقَائِلُ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدَىً كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾. رواه الترمذي والحاكم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

سادساً: النَّجْوَى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ مُفْسِدَاتِ هَذِهِ الأُخُوَّةِ النَّجْوَى، وَهُوَ حَدِيثُ السِّرِّ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

أَمْرٌ ظَاهِرُهُ بَسِيطٌ، لَكِنَّ لَهُ مَعْنَىً عَمِيقاً لِمَنْ يُفَكِّرُ في بِنَاءِ العَلَاقَةِ الصَّحِيحَةِ بَيْنَ الإِخْوَةِ، وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَالسِّرُّ في هَذَا، أَنَّ الشَّيْطَانَ الذي هُوَ حَرِيصٌ عَلَى تَشْوِيشِ العَلَاقَةِ بَيْنَ الإِخْوَةِ، يُوَسْوِسُ لَهُ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَتَكَلَّمَانِ فِيكَ، وَيَقْصِدَانِكَ، وَلَا يُرِيدَانِكَ، إلى مَا هُنَالِكَ مِنَ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ تَكُونُ الحَيَاةُ قَاسِيَةً حِينَ يَنْضُبُ مَعِينُ الأُخُوَّةِ، وَتَجِفُّ يَنَابِيعُ الحُبِّ في اللهِ، وَإِذَا حَلَّتِ الأَنَانِيَّةُ وَحُبُّ الذَاتِ مَحَلَّ الأُخُوَّةِ في اللهِ، عِنْدَ ذَلِكَ يَعِيشُ الإِنْسَانُ حَيَاةً النَّكَدِ، وَيَشْعُرُ بِعُزْلَةٍ قَاسِيَةٍ عَنْ مُجْتَمَعِهِ.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُمَارِسُ أَلْوَانَاً مِنْ مُفْسِدَاتِ الأُخُوَّةِ، فَيَتَفَنَّنُ في إِبْعَادِ الآخَرِينَ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَكُنْ حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى سَلَامَةِ الأُخُوَّةِ في اللهِ بَيْنَنَا، لِأَنَّهُ وَاللهِ الأُخُوَّةُ في اللهِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى العَبْدِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الأَخَ في اللهِ يُذَكِّرُكَ دَائِمَاً بِاللهِ تعالى وَمَرْضَاتِهِ.

اللَّهُمَّ دُلَّنَا عَلَى مَنْ يَدُلُّنَا عَلَيْكَ، وَأَوْصِلْنَا بِالذي يُوصِلُنَا إِلَيْكَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 28/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 31/ تموز / 2019م