6ـ نشأة علم التصوف

6ـ نشأة علم التصوف

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تعالى، المُرْشِدُ الكَبِيرُ، سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في كِتَابِهِ: حَقائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ: نَشْأَةُ عِلْمِ التَّصَوُّفِ:

يَقُولُ الدكتور أَحْمَد عَلْوَشْ: (قَدْ يَتَسَاءَلُ الكَثِيرُونَ عَنِ السَّبَبِ في عَدَمِ انْتِشَارِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّصَوُّفِ في صَدْرِ الإِسْلَامِ، وَعَدَمِ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَّا بَعْدَ عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَالجَوَابُ عَنْ هَذَا:

إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ مِنْ حَاجَةٍ إِلَيْهَا في العَصْرِ الأَوَّلِ، لِأَنَّ أَهْلَ هَذَا العَصْرِ كَانُوا أَهْلَ تَقْوَى وَوَرَعٍ، وَأَرْبَابَ مُجَاهَدَةٍ وَإِقْبَالٍ عَلَى العِبَادَةِ بِطَبِيعَتِهِمْ، وَبِحُكْمِ قُرْبِ اتِّصَالِهِمْ بِرَسُولُ اللهِ ﷺ، فَكَانُوا يَتَسَابَقُونَ وَيَتَبَارُونَ في الاقْتِدَاءِ بِهِ في ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَدْعُو إِلَى تَلْقِينِهِمْ عِلْمَاً يُرْشِدُهُمْ إِلَى أَمْرٍ هُمْ قَائِمُونَ بِهِ فِعْلَاً، وَإِنَّمَا مَثَلُهُمْ في ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَثَلِ العَرَبِيِّ القُحِّ، يَعْرِفُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ بِالتَّوَارُثِ كَابِرَاً عَنْ كَابِرٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْرِضُ الشِّعْرَ البَلِيغَ بِالسَّلِيقَةِ وَالفِطْرَةِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئَاً مِنْ قَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَالإِعْرَابِ وَالنَّظْمِ وَالقَرِيضِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ النَّحْوَ وَدُرُوسَ البَلَاغَةِ، وَلَكِنْ عِلْمُ النَّحْوِ وَقَوَاعِدُ اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ تُصْبِحُ لَازِمَةً وَضَرُورِيَّةً عِنْدَ تَفَشِّي اللَّحْنِ، وَضَعْفِ التَّعْبِيرِ، أَو لِمَنْ يُرِيدُ مِنَ الأَجَانِبِ أَنْ يَتَفَهَّمَهَا وَيَتَعَرَّفَ عَلَيْهَا، أَو عِنْدَمَا يُصْبِحُ هَذَا العِلْمُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورَاتِ الاجْتِمَاعِ كَبَقِيَّةِ العُلُومِ التي نَشَأَتْ وَتَأَلَّفَتْ عَلَى تَوَالِي العُصُورِ في أَوْقَاتِهَا الـمُنَاسِبَةِ.

فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ـ وَإِنْ لَمْ يَتَسَّمَّوْا بِاسْمِ الـمُتَصَوِّفِينَ ـ كَانُوا صُوفِيِّينَ فِعْلَاً وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ اسْمَاً. وَمَاذَا يُرَادُ بِالتَّصَوُّفِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعِيشَ الـمَرْءُ لِرَبِّهِ لَا لِنَفْسِهِ، وَيَتَحَلَّى بِالزُّهْدِ وَمُلَازَمَةِ العُبُودِيَّةِ، وَالإِقْبَالِ عَلَى اللهِ بِالرُّوحِ وَالقَلْبِ في جَمِيعِ الأَوْقَاتِ، وَسَائِرِ الكَمَالَاتِ التي وَصَلَ بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ حَيْثُ الرُّقِيُّ الرُّوحِيُّ إِلَى أَسْمَى الدَّرَجَاتِ فَهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِالإِقْرَارِ في عَقَائِدِ الإِيمَانِ، وَالقِيَامِ بِفُرُوضِ الإِسْلَامِ، بَلْ قَرَنُوا الإِقْرَارَ بِالتَّذَوُّقِ وَالوُجْدَانِ، وَزَادُوا عَلَى الفُرُوضِ الإِتْيَانَ بِكُلِّ مَا اسْتَحَبَّهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ نَوَافِلِ العِبَادَاتِ، وَابْتَعَدُوا عَنِ الـمَكْرُوهَاتِ فَضْلَاً عَنِ الـمُحَرَّمَاتِ، حَتَّى اسْتَنَارَتْ بَصَائِرُهُمْ، وَتَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَفَاضَتِ الأَسْرَارُ الرَّبَّانِيَّةُ عَلَى جَوَانِحِهِمْ؛ وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ، وَهَذِهِ العُصُورُ الثَّلَاثَةُ كَانَتْ أَزْهَى عُصُورِ الإِسْلَامِ وَخَيْرَهَا عَلَى الإِطْلَاقِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولُ اللهِ ﷺ قوله: «خَيْرُ القُرُونِ قَرْنِي هَذَا فَالذي يَلِيهِ وَالذي يَلِيهِ».

فَلَمَّا تَقَادَمَ العَهْدُ، وَدَخَلَ في حَظِيرَةِ الإِسْلَامِ أُمَمٌ شَتَّى، وَأَجْنَاسٌ عَدِيدَةٌ، وَاتَّسَعَتْ دَائِرَةُ العُلُومِ، وَتَقَسَّمَتْ وَتَوَزَّعَتْ بَيْنَ أَرْبَابِ الاخْتِصَاصِ قَامَ كُلُّ فَرِيقٍ بِتَدْوِينِ الفَنِّ وَالعِلْمِ الذي يُجِيدُهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، فَنَشَأَ ـ بَعْدَ تَدْوِينِ النَّحْوِ في الصَّدْرِ الأَوَّلِ ـ عِلْمُ الفِقْهِ، وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ، وَعُلُومُ الحَدِيثِ، وَأُصُولُ الدِّينِ، وَالتَّفْسِيرُ، وَالـمَنْطِقُ، وَمُصْطَلَحُ الحَدِيثِ، وَعِلْمُ الأُصُولِ، وَالفَرَائِضُ "الـمِيرَاثُ" وَغَيْرُهَا..

وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الفَتْرَةِ أَنْ أَخَذَ التَّأْثِيرُ الرُّوحِيُّ يَتَضَاءَلُ شَيْئَاً فَشَيْئَاً، وَأَخَذَ النَّاسُ يَتَنَاسَوْنَ ضَرُورَةَ الإِقْبَالِ عَلَى اللهِ بِالعُبُودِيَّةِ، وَبِالقَلْبِ وَالهِمَّةِ، مِمَّا دَعَا أَرْبَابَ الرِّيَاضَةِ وَالزُّهْدِ إِلَى أَنْ يَعْمَلُوا هُمْ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ أَيْضَاً عَلَى تَدْوِينِ عِلْمِ التَّصَوُّفِ وَإِثْبَاتِ شَرَفِهِ وَجَلَالِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ العُلُومِ، وَلَمْ  يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمُ احْتِجَاجَاً عَلَى انْصِرَافِ الطَّوَائِفِ الأُخْرَى إِلَى تَدْوِينِ عُلُومِهِمْ ـــ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ خَطَأً بَعْضُ الـمُسْتَشْرِقِينَ ـــ بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَدَّاً للنَّقْصِ، وَاسْتِكْمَالَاً لِحَاجَاتِ الدِّينِ في جَمِيعِ نَوَاحِي النَّشَاطِ، مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِحُصُولِ التَّعَاوُنِ عَلَى تَمْهِيدِ أَسْبَابِ البِرِّ وَالتَّقْوَى.

وَقَدْ بَنَى أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ الأَوَّلُونَ أُصُولَ طَرِيقَتِهِمْ عَلَى مَا ثَبَتَ في تَارِيخِ الإِسْلَامِ نَقْلَاً عَنِ الثِّقَاتِ الأَعْلَامِ.

أَمَّا تَارِيخُ التَّصَوُّفِ فَيَظْهَرُ في فَتْوَى للإِمَامِ الحَافِظِ السَّيِّدِ مُحَمَّد صِدِّيق الغماري رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، فَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَوَّلِ مَنْ أَسَّسَ التَّصَوُّفَ؟ وَهَلْ هُوَ بِوَحْيٍ سَمَاوِيٍّ؟ فَأَجَابَ: 

(أَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسَّسَ الطَّرِيقَةَ، فَلْتَعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَةَ أَسَّسَهَا الوَحْيُ السَّمَاوِيُّ في جُمْلَةِ مَا أَسَّسَ مِنَ الدِّينِ الـمُحَمَّدِيِّ، إِذْ هِيَ بِلَا شَكٍّ مَقَامُ الإِحْسَانِ الذي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ التي جَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ مَا بَيَّنَهَا وَاحِدَاً وَاحِدَاً دِينَاً بِقَوْلِهِ: «هَذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» وَهُوَ الإِسْلَامُ وَالإِيمَانُ وَالإِحْسَانُ.

فَالإِسْلَامُ طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ، وَالإِيمَانُ نُورٌ وَعَقِيدَةٌ، وَالإِحْسَانُ مَقَامُ مُرَاقَبَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ...».

ثُمَّ قَالَ السَّيِّدُ مُحَمَّد صِدِّيق الغماري في رِسَالَتِهِ تِلْكَ: (فَإِنَّهُ كَمَا في الحَدِيثِ عِبَارَةٌ عَنِ الأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِهَذَا الـمَقَامِ (الإِحْسَانِ) الذي هُوَ الطَّرِيقَةُ، فَدِينُهُ نَاقِصٌ بِلَا شَكٍّ لِتَرْكِهِ رُكْنَاً مِنْ أَرْكَانِهِ، فَغَايَةُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الطَّرِيقَةُ وَتُشِيرُ إِلَيْهِ هُوَ مَقَامُ الإِحْسَانِ بَعْدَ تَصْحِيحِ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ).

رَحِمَ اللهُ تعالى شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرَ الجَزَاءِ مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

وَعَـلَى أَبِي أَيُّـوبَ حَلَّ فَـقِيدُنَا    ***   ضَـيْـفَـاً فَـكَـانَ لَـهُ المَقَامُ الأَرْفَعُ

بِـجِوَارِ مَنْ نَزَلَ الحَبِيبُ بِدَارِهِ    ***   وَاخْتَارَهُ بِـالـفَـضْـلِ رَبٌّ مُـبْـدِعُ

وَلَهُ مِنَ الـشَّهْبَـاءِ أَصْـلٌ ثَابِتٌ   ***   وَعَلَى ذُرَا اسْتَنْبُولَ مَـثْـوَىً يَسْطَعُ

ذِكْرَاهُ إِنْ ذُكِرَتْ ذُكَاءُ فَمَشْرِقٌ    ***   وَسَنَاهُ إِنْ طَلَعَ الهِلَالُ فَـمَـطْـلِـعُ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 22/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 23/آب / 2019م