47ـ قضاء ديونهما

47ـ قضاء ديونهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ قَضَاءُ دُيُونِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا وَقَبْلَ دَفْنِهِمَا، وَيَكُونُ مِنْ مَالِهِمَا، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الأَبْنَاءِ قَبْلَ اقْتِسَامِ التَّرِكَةِ، فَإِنْ مَاتَا وَعَلَيْهِمَا دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكَا مَالَاً فَلَا يَجِبُ عَلَى أَوْلَادِهِمَا قَضَاءُ دُيُونِهِمَا، وَلَكِنْ يُنْدَبُ في حَقِّهِمْ إِذَا كَانُوا مُوسِرِينَ أَنْ يَقْضُوا الدَّيْنَ عَنْهُمَا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ البِرِّ بِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الإمام البخاري عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسَاً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا.

فَقَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قَالُوا: لَا.

قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئَاً؟».

قَالُوا: لَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قِيلَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئَاً؟».

قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا.

ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: «هَلْ تَرَكَ شَيْئَاً؟».

قَالُوا: لَا.

قَالَ: «فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ.

قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ».

قَالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَظَّمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الدَّيْنِ، وَكَانَ مِنْ حُكْمِ الإِسْلَامِ في أَوَّلِ الأَمْرِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ.

كُلُّ ذَلِكَ، لِكَيْ يُخَوِّفَ النَّاسَ مِنَ الدَّيْنِ، وَيُرْهِبَهُمْ مِنْهُ، وَيَجْعَلَهُمْ في عَافِيَةٍ مِنْ هَذَا البَلَاءِ العَظِيمِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ هَمٌّ بِاللَّيْلِ وَذُلٌّ بِالنَّهَارِ، يَمْنَعُ الإِنْسَانَ مِنَ الخُشُوعِ في عِبَادَتِهِ، وَالرَّاحَةِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَالسَّعِيدُ مَنِ ابْتَعَدَ عَنِ الدَّيْنِ وَأَسْبَابِهِ.

«يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: البَارُّ بِوَالِدَيْهِ يُسْرِعُ إلى سَدَادِ دُيُونِهِمَا، وَخَاصَّةً بَعْدَ مَوْتِهِمَا، وَقَبْلَ دَفْنِهِمَا، لِأَنَّهُ مَنِ ابْتُلِيَ بِالدَّيْنِ مُطَالَبٌ بِالسَّدَادِ حَتَّى يُبْرِئَ ذِمَّتَهُ، وَيُخَلِّصَ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّ المَيْتَ لَو أَنَّهُ مَاتَ أَحَبَّ مِيتَةً إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ مِيتَةُ الشَّهَادَةِ، لَو مَاتَ شَهِيدَاً غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا إِلَّا الدَّيْنُ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ».

نَعَمْ، الشَّهِيدُ الذي يُغْفَرُ لَهُ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيُؤْمَنُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وَفِتْنَةِ القَبْرِ، وَيَشْفَعُ في سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ، وَرُوحُهُ تَكُونُ في حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ في الجَنَّةِ، تَأْوِي إلى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالعَرْشِ، يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ.

التَّأَخُّرُ في سَدَادِ دَيْنِ المَيْتِ بَلَاءٌ عَظِيمٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ الإِسْرَاعُ في سَدَادِ دُيُونِهِمَا قَبْلَ تَقْسِيمِ التَّرْكَةِ، لِأَنَّ حُقُوقَ العِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ لَا عَلَى المُسَامَحَةِ، وَتَأْخِيرُ سَدَادِ الدَّيْنِ عَنْهُمَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ عَرَفَ أَحَادِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الأَمْرِ، روى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟

فَخَطَا خُطَىً، ثُمَّ قَالَ: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟».

قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا المَيِّتُ؟».

قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟».

فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ.

قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ».

وروى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ».

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ قُلْتَ؟».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المَوْتُ مَصِيرُنَا، وَالقَبْرُ مَقَرُّنَا، وَالجَنَّةُ أَو النَّارُ مَوْرِدُنَا، وَصَدَقَ قَوْلُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَإِذَا كَانَ المَوْتُ مَصِيرَنَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِأَنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَمِنْ أَعْظَمِ القُرُبَاتِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُسْرِعَ في سَدَادِ دُيُونِهِمَا، وَخَاصَّةً إِنْ تَرَكَا مَالَاً، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ بِاللهِ تعالى مِنَ الدَّيْنِ، فَقَالَ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ» رواه أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْزُقَنَا بِرَّ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 24/ ذو الحجة/1440هـ، الموافق: 25/ آب / 2019م