153ـ إسلام سيدنا عدي بن حاتم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (1)

153ـ إسلام سيدنا عدي بن حاتم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: آيَةٌ في كِتَابِ اللهِ تعالى هِيَ أَجْمَعُ آيَةٍ بَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، وَهيَ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.

فَالأَصْلُ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى أَنْ تَكُونَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَالجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَهَذَا الأُسْلُوبُ مَطْلُوبٌ في حَقِّ الكُفَّارِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ في حَقِّ العُصَاةِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَيَمْنَعُ شَرْعُنَا العُدُولَ عَنْهُ إِلَّا في حَالَاتٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ ضَعِيفَةٍ جِدَّاً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَصَفَ اللهُ تعالى نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾.

وَوَصَفَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَدَاعِيَاً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجَاً مُنِيرَاً﴾.

وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وتعالى أَنَّ أَحْسَنَ الأَقْوَالِ وَأَرْضَاهَا عِنْدَهُ تَبَارَكَ وتعالى هِيَ الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى، فَقَالَ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلَاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.

وَأَمَرَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِأَنَّ سَبِيلَهُمُ الدَّعْوَةُ إلى اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

حِكْمَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَرَّفِ اليَوْمَ عَلَى قِصَّةِ إِسْلَامِ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ مِنْ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَلَا وَهُوَ سَيِّدُنَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، أَبُوهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ الذي ذَهَبَ ذِكْرُهُ في مَسْمَعِ التَّارِيخِ، مَضْرِبَ مَثَلٍ في الكَرَمِ وَالسَّمَاحَةِ وَالإِيثَارِ، وَقَدِ اكْتَسَبَ عَدِيٌ مِنْ صِفَاتِ أَبِيهِ الشَّيْءَ الكَثِيرَ، وَمَنْ شَابَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، فَقَدْ كَانَ جَوَادَاً كَرِيمَاً.

قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَرْسَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ يَسْتَعِيرُ قُدُورَ حَاتِمٍ، فَأَمَرَ بِهَا عَدِيُّ فَمُلِئَتْ وَحَمَلَهَا الرَّجُلُ إِلَى الْأَشْعَثِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْأَشْعَثُ: إِنَّمَا أَرَدْنَاهَا فَارِغَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَدِيُّ: إِنَّا لَا نُعِيرُهَا فَارِغَةً. رواه الطَّبَرَانِيُّ في مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَسْمَعْ قِصَّةَ إِسْلَامِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، كَمَا جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ، يَقُولُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: مَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ العَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنِّي، أَمَا أَنَا فَكُنْتُ امْرَأً شَرِيفَاً، وَكُنْتُ نَصْرَانِيَّاً، وَكُنْتُ أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ (أَيْ: آخُذُ الرُّبُعَ مِنَ الغَنَائِم، لِأَنِّي سَيِّدُهُمْ) فَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ، وَكُنْتُ مَلِكَاً فِي قَوْمِي، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي.

فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَرِهْتُهُ، فَقُلْتُ لِغُلَامٍ كَانَ لِي عَرَبِيٍّ، وَكَانَ رَاعِيَاً لِإِبِلِي: لَا أَبَا لَكَ، أَعْدِدْ لِي مِنْ إبِلِي أَجَمَالَاً ذُلُلَاً (وَهُوَ الجَمَلُ السَّهْلُ الذي قَدْ رِيضَ) سِمَانَاً، فَاحْتَبِسْهَا قَرِيبَاً مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدِ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنِّي، فَفَعَلَ، ثُمَّ إنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، مَا كُنْتَ صَانِعَاً إذَا غَشِيَتْكَ خَيْلُ مُحَمَّدٍ، فَاصْنَعْهُ الآنَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ.

قَالَ: فَقُلْتُ: فَقَرِّبْ إلَيَّ أَجْمَالِي، فَقَرَّبَهَا، فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِي دِينِي مِنْ النَّصَارَى بِالشَّامِ فَسَلَكْتُ الْجَوْشِيَّةَ ـ وَيُقَالُ: الْحَوْشِيَّةُ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ـ وَخَلَّفْتُ بِنْتَاً لِحَاتِمِ فِي الْحَاضِرِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ أَقَمْتُ بِهَا.

وَتُخَالِفُنِي خَيْلٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ، فِيمَنْ أَصَابَتْ، فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا مِنْ طيِّئ، وَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَرَبِي إلَى الشَّامِ، قَالَ: فَجُعِلَتْ بِنْتُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، كَانَتْ السَّبَايَا يُحْبَسْنَ فِيهَا، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَتْ إلَيْهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَزْلَةً، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ.

قَالَ: «وَمَنْ وَافِدُكَ؟».

قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.

قَالَ: الفَارُّ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ؟

قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنِي، حَتَّى إذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ بِي، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالْأَمْسِ.

قَالَتْ: حَتَّى إذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ مَرَّ بِي وَقَدْ يَئِسْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ قَوْمِي فَكَلِّمِيهِ.

قَالَتْ: فَقُمْتُ إلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْوَالِدُ، وَغَابَ الْوَافِدُ، فَامْنُنْ عَلَيَّ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يَكُونُ لَكَ ثِقَةً، حَتَّى يُبَلِّغْكِ إلَى بِلَادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي.

فَسَأَلْتُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي أَشَارَ إلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَهُ؛ فَقِيلَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَقَمْتُ حَتَّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيَّ أَوْ قُضَاعَةَ، قَالَتْ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشَّامِ.

قَالَتْ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي، لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلَاغٌ.

قَالَتْ: فَكَسَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحَمَلَنِي، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ.

قَالَ عَدِيٌّ: فَوَاللهِ إِنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي، إذْ نَظَرْتُ إلَى ظَعِينَةٍ (الْمَرْأَةُ فِي هَوْدَجِهَا) تَصُوبُ (تَقْصِدُ وَتَؤُمُّ) إلَيَّ تَؤُمُّنَا، قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ؟

قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ (أَخَذَتْ فِي اللَّوْمِ وَمَضَتْ فِيهِ مُجِدَّةً) تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ، وَتَرَكْتَ بَقِيَّةَ وَالِدِكَ عَوْرَتَكَ.

قَالَ: قُلْتُ: أَيْ أُخَيَّةُ، لَا تَقُولِي إِلَّا خَيْرَاً، فَوَاللهِ مَا لِي مِنْ عُذْرٍ، لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْتِ.

قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً: مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟

قَالَتْ: أَرَى وَاللهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعَاً، فَإِنْ يَكُنْ الرَّجُلُ نَبِيَّاً فَلِلسَّابِقِ إلَيْهِ فَضْلُهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكَاً فَلَنْ تَذِلَّ فِي عِزِّ الْيَمَنِ، وَأَنْتَ أَنْتَ.

قَالَ: قُلْتُ: وَاللهِ إنَّ هَذَا الرَّأْيُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا أَرَادَ اللهُ تعالى أَمْرَاً هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ، لَقَدْ أَرَادَ اللهُ تعالى خَيْرَاً بِسَيِّدِنَا عَدِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَهَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَ اللِّقَاءِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ فِيمَا اخْتَارَهُ اللهُ تعالى لِعَبْدِهِ.

وَسَوْفَ نُتَابِعُ الحَدِيثَ عَنْ إِسْلَامِ سَيِّدِنَا عَدِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في اللِّقَاءِ اللَّاحِقِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تعالى.

وَأَسْأَلُ اللهَ تعالى الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى نَلْقَاهُ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 29/ آب / 2019م