154ـ إسلام سيدنا عدي بن حاتم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (2)

154ـ إسلام سيدنا عدي بن حاتم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الدَّاعِي إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَلِّيَاً بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ، وَالتي مِنْ مَظَاهِرِهَا الحِكْمَةُ وَالمَوْعِظَةُ الحَسَنَةُ، وَالمُجَادَلَةُ بِالتي هِيَ أَحْسَنُ.

الدَّاعِي إلى اللهِ تعالى حَرِيصٌ عَلَى هِدَايَةِ جَمِيعِ الخَلْقِ وَلَو كَانُوا كَافِرِينَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَاطِبَ الآخَرِينَ بِأُسْلُوبٍ مُهَذَّبٍ، كَمَا قَالَ تعالى لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أَرْسَلَهُمَا إلى فِرْعَوْنَ: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلَاً لَيِّنَاً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾.

الخِطَابُ بِهَذَا الشَّكْلِ مَنْ أَبْجَدِيَّاتِ الدَّعْوَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوَطِّدَ الدَّاعِي الكَلَامَ للمَدْعُوِّ، وَأَنْ يُهَيِّئَهُ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ، وَأَنْ يُخَاطِبَهُ بِلِينِ القَوْلِ لَعَلَّهُ يَتَذَكَرُ أَو يَخْشَى، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾. أَمَّا إِذَا خَاطَبَ الدَّاعِي إلى اللهِ تعالى المَدْعُوَّ بِحِدَّةِ القَوْلِ وَشِدَّتِهِ، فَقَدْ يَسْمَعُ مِنَ المَدْعُوِّ قَوْلَهُ:

أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا   ***   فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا

أَمَّا إِذَا خَاطَبَهُ بِالتي هِيَ أَحْسَنُ، فَرُبَّمَا لَانَ وَهُوَ ذُو قَسْوَةٍ، وَرُبَّمَا ضَعُفَ وَهُوَ ذُو شِدَّةٍ، لِأَنَّهُ بِالكَلِمَةِ الحَسَنَةِ قَدْ تُصَادِفُ مَكَانَ اللِّينِ في المَدْعُوِّ، وَتُخَاطِبُهُ مِنْ مَقْتَلِهِ، وَقَدْ وَصَلْتَ إلى قَلْبِهِ وَالنَّافِذَةُ لَيْسَتْ مُغْلَقَةً، أَمَّا عِنْدَمَا يُخَاطِبُ الدَّاعِي المَدْعُوَّ بِشِدَّةٍ فَسَيُغْلَقُ البَابُ في وَجْهِهِ وَلَنْ يَصِلَ إلى قَلْبِهِ.

فَالذي يُرِيدُ الوُصُولَ إلى القُلُوبِ فَعَلَيْهِ بِحُسْنِ القَوْلِ وَاللِّينِ وَاللُّطْفِ وَالأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

دُخُولُ عَدِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الإِسْلَامِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَنْظُرْ في إِسْلَامِ سَيِّدِنَا عَدِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، عِنْدَمَا لَقِيَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

يُحَدِّثُنَا سَيِّدُنَا عَدِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ، كَمَات جَاءَ في سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: قَالَ عَدِيٌّ لِأُخْتِهِ سَفَّانَة: مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟

قَالَتْ: أَرَى وَاللهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعَاً، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ نَبِيَّاً فَلِلسَّابِقِ إلَيْهِ فَضْلُهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكَاً فَلَنْ تَذِلَّ فِي عِزِّ الْيَمَنِ، وَأَنْتَ أَنْتَ.

قَالَ: قُلْتُ: وَاللهِ إنَّ هَذَا الرَّأْيُ.

قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنِ الرَّجُلُ؟».

فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.

فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى بَيته، فَوَاللهِ إنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ، إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ، فَاسْتَرْقَفْتُهُ، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلَاً تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا.ط

قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللهِ مَا هَذَا بِمَلِكِ.

قَالَ: ثُمَّ مَضَى بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ، تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةٍ لِيفَاً، فَقَذَفَهَا إلَيَّ، فَقَالَ: «اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ».

قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا.

فَقَالَ: «بَلْ أَنْتَ».

فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْأَرْضِ.

قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ؛ ثُمَّ قَالَ: «إيِهِ يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ! أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيَّاً؟ (لَهُمْ دِينٌ بَيْنَ دِينِ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ)».

قَالَ: قُلْتُ: بلَى.

قَالَ: «أولم تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ؟».

قَالَ: قُلْتُ: بَلَى.

قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ».

قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللهِ، وَقَالَ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ.

ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّكَ يَا عَدِيُّ إنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدِّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ المَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذهُ، وَلَعَلَّكَ إنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَوَاللهِ لِيُوشِكَنَّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا حَتَّى تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ، لَا تَخَافُ، وَلَعَلَّكَ إنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنَّكَ تَرَى أَنَّ الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَايْمُ اللهِ لَيُوشِكَنَّ أَنَّ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ؛ قَالَ: فَأَسْلَمْتُ.

وَكَانَ عَدِيٌّ يَقُولُ: قَدْ مَضَتِ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتِ الثَّالِثَةُ، وَاللهِ لَتَكُونَنَّ، قَدْ رَأَيْتُ الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتَّى تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ، وَايْمُ اللهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ، لَيَفِيضَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ. اهـ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحِكْمَةُ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى هِيَ مَنْهَجُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالرِّفْقُ في الدَّعْوَةِ مَطْلُوبٌ مِنَ الدَّاعِي تُجَاهَ المَدْعُوِّ، لِأَنَّ الرِّفْقَ مَا وُجِدَ في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، العُنْفُ نَتَائِجُهُ وَخِيمَةٌ، العُنْفُ يَهْدِمُ وَلَا يَبْنِي، وَيُفْسِدُ وَلَا يُصْلِحُ، وَالشِّدَّةُ تُدَمِّرُ وَلَا تُعَمِّرُ.

مُهِمَّةُ الدَّاعِي ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾. مُهِمَّةُ الدَّاعِي: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾. مُهِمَّةُ الدَّاعِي ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا الحِكْمَةَ وَلَا الرِّفْقَ في دَعْوَتِنَا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

 

الخميس: 4/ محرم /1441هـ، الموافق: 5/ أيلول / 2019م