17ـ كان السجن منحة

17ـ كان السجن منحة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ العِبَرِ وَالفَوَائِدِ التي نَأْخُذُهَا مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنَّ المَرْءَ مُبْتَلَىً مَا عَاشَ، فَالخَيْرُ الذي يُصِيبُهُ ابْتِلَاءٌ، لِيُنْظَرَ أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ، وَالضُّرُّ الذي يَلْحَقُ بِهِ ابْتِلَاءٌ لِيُنْظَرَ أَيَصْبِرُ أَمْ يَضْجَرَ، قَالَ تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالـشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.

وَالمُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَخْرُجُ مِنَ الابْتِلَاءِ رَابِحَاً فَائِزَاً، وَيَكُونُ مُتَحَقِّقَاً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبَاً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ إِيمَانَاً، وَأَكْثَرُهُمْ عُرْضَةً للبَلَاءِ، وَمِنْهُمْ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَعَرَّضَ لِمَحَنٍ عَدِيدَةٍ كَانَ مِنْ أَشَدِّهَا مِحْنَةً المُرَاوَدَةُ التي انْتَهَتْ بِهِ لِمِحْنَةٍ ثَانِيَةٍ، مِحْنَةِ السِّجْنِ.

فَفِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾. اعْتِرَافٌ وَإِقْرَارٌ مِنِ امْرَأَةِ العَزِيزِ أَنْهَتْ فِيهِ القِصَّةَ بِأَكْمَلِهَا، هِيَ التي رَاوَدَتْهُ وَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ، وَهِيَ التي بَرَّأَتْهُ بِـصَرِيحِ قَوْلِهِ: ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾. وَهَذِهِ الكَلِمَةُ دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ شَابٍّ، لِكُلِّ رَجُلٍ أَمَامَ الفِتَنِ ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾. وِقْفَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ بَابُهَا: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ.

مَا أَحْوَجَنَا إلى الاسْتِعْصَامِ بِاللهِ تعالى في الشَّدَائِدِ ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ صَرَّحَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ بِأَنَّهَا هِيَ التي رَاوَدَتْهُ وَأَنَّهُ اسْتَعْصَمَ، وَلَكِنَّهَا أَصَرَّتْ عَلَى ارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ لِأَنَّهُ لَا غَيْرَةَ عِنْدَ زَوْجِهَا وَمَنْ يَلُوذُ بِهَا، فَقَالَتْ: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.

وَهُنَا لَطِيفَةٌ َيَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهَا، وَهِيَ أَنَّ السِّجْنَ قَرَارُهُ بِيَدِهَا أَو بِيَدِ زَوْجِهَا، لِذَلِكَ قَالَتْ مُؤَكِّدَةً ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾. أَمَّا الصَّغَارُ فَهُوَ قَضِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لَيْسَ بِيَدِهَا وَلَا بِيَدِ زَوْجِهَا، بَلْ بِيَدِ اللهِ تعالى الذي يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، لِذَلِكَ قَالَتْ: ﴿وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾. وَلَمْ تَقُلْ لَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّاغِرِينَ فَجَاءَتْ بِنُونِ التَّوْكِيْدِ الخَفِيْفَةِ؛ هَذَا القَرَارُ لَيْسَ بِيَدِهَا، فَالعَزِيزُ مَنْ أَعَزَّهُ اللهُ، وَالذَّلِيلُ الصَّاغِرُ مَنْ أَذَلَّهُ اللهُ وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّاغِرِينَ.

﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَمَّا كَانَ قَرَارُ امْرَأَةِ العَزِيزِ هَذَا ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾. قَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.

لَقَدْ فَرَّ مِنِ امْرَأَةِ العَزِيزِ سَابِقَاً وَاسْتَبَقَا البَابَ، وَهَا هُوَ يَفِرُّ مِنَ النِّسْوَةِ، وَيَلْتَجِئُ إلى اللهِ تعالى، وَيَخْتَارُ السِّجْنَ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ﴾. كَلِمَةً تَسْمَعُ مِنْهَا أَثَرَ الأَسَى وَالاسْتِعْطَافَ وَطَلَبَ الرَّحْمَةِ، مِمَّنْ رَبَّاهُ بِالنِّعَمِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِ بِجَزِيلِ المِنَنِ ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هُنَاكَ مَنْ يَقُولُ أَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْطَأَ عِنْدَمَا قَالَ ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾. وَلَو أَنَّهُ قَالَ: عَافِيَتُكَ أَوْسَعُ لِي؛ لَمْ يَقَعْ في السِّجْنِ.

وَهَذَا القَوْلُ خَاطِئٌ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وُضِعَ أَمَامَ خَيَارَيْنِ، الفَاحِشَةُ أَو السِّجْنُ، فَالسِّجْنُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضْيلِ هُنَا لَا يَـقْتَضِي حُبَّ المُفَضَّلِ، وَإِلَّا لَلَزِمَ القَوْلُ بِأَنَّ الفَاحِشَةَ كَانَتْ حَبِيبَةً إلى قَلْبِهِ غَيْرَ أَنَّ السِّجْنَ أَحَبُّ إِلَيْهِ.

فَغَايَةُ القَوْلِ: أَنَّ السِّجْنَ أَفْضَلُ وَأَقْرَبُ إلى نَفْسِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الوُقُوعِ في الفَاحِشَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المُؤْمِنُ لَا يَطْلُبُ البَلَاءَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

المُؤْمِنُ يَفِرُّ مِنَ الفِتَنِ، وَهَذَا مَا صَنَعَهُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَطْلُبِ السِّجْنَ، وَلَكِنَّ امْرَأَةَ العَزِيزِ حَاصَرَتْهُ، إِمَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُسْجَنَ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾.

وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ وَمُشَاهَدٌ، قَدْ تَجِدُ إِنْسَانَاً يَقُولُ لِآخَرَ: إِمَّا أَنْ تَفْعَلَ هَذَا وَإِمَّا أَنْ أَضْرِبَكَ؛ فَيَقُولُ: الضَّرْبُ أَحَبُّ إِلَيَّ؛ وَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ يُحِبُّ الضَّرْبَ.

السِّجْنُ كَانَ مِنْحَةً لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ السِّجْنُ مِنْحَةً لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ خَلَّصَهُ مِنْ بَلَاءِ المُرَاوَدَةِ وَالفِتْنَةِ، وَلِأَنَّهُ فَتَحَ لَهُ بَابَاً عَظِيمَاً مِنْ أَبْوَابِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي خِتَامِ الأَمْرِ مَكَّنَ لَهُ في الأَرْضِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وَالقَائِلُ: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الفَوَائِدِ وَالعِبَرِ التي نَأْخُذُهَا مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ مُصِيبَةِ الدِّينِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذَا بِدُعَائِهِ: «وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا» رواه الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

عَلَمَنَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ تَحَمُّلَ البَلَاءِ العَاجِلِ خَوْفَاً مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِتْنَةِ الدِّينِ مِنَ العَذَابِ الآجِلِ هُوَ اخْتِيَارُ الأَنْبِيَاءِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

نَعَمْ لَقَدْ آثَرَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السِّجْنَ وَمَا فِيهِ مِنَ الكَرْبِ وَالضِّيقِ وَاللَّأْوَاءِ عَلَى مَا كَانَ يَنْتَظِرُهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا في كَنَفِ العَزِيزِ وَفِتْنَةِ النِّسَاءِ.

وَلَمَّا كَانَ عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، صَارَ اخْتِيَارَ مَنْ يُدْرِكُ العَوَاقِبِ، بِمَا أُوتِيَ مِنْ بَصِيرَةٍ وَنَظَرٍ ثَاقِبٍ، كَمَا أَنَّ اخْتِيَارَ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ، وَأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ في أُمُورِ الدُّنْيَا هُوَ مُقْتَضَى العَقْلِ وَالتَّشْرِيعِ مَعَاً.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، وَنَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَجْعَلَ مُصِيبَتَنَا في دِينِنَا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 2/ محرم /1441هـ، الموافق: 2/ أيلول / 2019م