7ـ نشأة علم التصوف (2)

حقائق عن التصوف

7ـ نشأة علم التصوف (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تعالى، المُرْشِدُ الكَبِيرُ، سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في كِتَابِهِ: حَقائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ:

قَالَ ابْنُ خَلْدُون في مُقَدِّمَتِهِ:

(وَهَذَا العِلْمُ ــ يَعْنِي التَّصَوُّفَ ــ مِنَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الحَادِثَةِ في الـمِلَّةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَمْ تَزَلْ عِنْدَ سَلَفِ الأُمَّةِ وَكِبَارِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ طَرِيقَةَ الحَقِّ وَالهِدَايَةِ، وَأَصْلُهَا العُكُوفُ عَلَى العِبَادَةِ، وَالانْقِطَاعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالإِعْرَاضُ عَنْ زُخْرِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَالزُّهْدُ في مَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ الجُمْهُورُ مِنْ لَذَّةٍ وَمَالٍ وَجَاهٍ، وَالانْفِرَادُ عَنِ الخَلْقِ، وَالخَلْوَةُ للعِبَادَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَامَّاً في الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ، فَلَمَّا فَشَا الإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا في القَرْنِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ، وَجَنَحَ النَّاسُ إِلَى مُخَالَطَةِ الدُّنْيَا، اخْتَصَّ الـمُقْبِلُونَ عَلَى العِبَادَةِ بِاسْمِ الصُّوفِيَّةِ).

وَيَعْنِينَا مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ خَلْدُون الفَقْرَةُ الأَخِيرَةُ، التي يُقَرِّرُ فِيهَا أَنَّ ظُهُورَ التَّصَوُّفَ وَالصُّوفِيَّةِ كَانَ نَتِيجَةَ جُنُوحِ النَّاسِ إِلَى مُخَالَطَةِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا في القَرْنِ الثَّانِي للهِجْرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَّخِذَ الـمُقْبِلُونَ عَلَى العِبَادَةِ اسْمَاً يُمَيِّزُهُمْ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ الذينَ أَلَّهَتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا الفَانِيَةُ.

يَقُولُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّد صِدِّيقُ الغماري: وَيَعْضُدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلْدُونَ في تَارِيخِ ظُهُورِ اسْمِ التَّصَوُّفِ مَا ذَكَرَهُ الكِنْدِيُّ ـ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ القَرْنِ الرَّابِعِ ـ في كِتَابِ (وُلَاةُ مِصْرَ) في حَوَادِثِ سَنَةِ الـمِائَتَيْنِ: إِنَّهُ ظَهَرَ بِالاسْكَنْدَرِيَّةِ طَائِفَةٌ يُسَمَّوْنَ بِالصُّوفِيَّةِ يَأْمُرُونَ بِالـمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الـمَسْعُودِيُّ في (مُرُوجُ الذَّهَبِ) حَاكِيَاً عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ فَقَالَ: إِنَّ الـمَأْمُونَ يَوْمَاً لَجَالِسٌ، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ الحَاجِب، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الـمُؤْمِنِينَ! رَجُلٌ وَاقِفٌ بِالبَابِ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ غِلَاظٌ، يَطْلُبُ الدُّخُولَ للمُنَاظَرَةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، فَهَاتَانِ الحِكَايَتَانِ تَشْهَدَانِ لِكَلَامِ ابْنِ خَلْدُونَ في تَارِيخِ نَشْأَةِ التَّصَوُّفِ، وَذُكِرَ في (كَشْفُ الظُّنُونِ) أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ بِالصُّوفِيِّ أَبُو هَاشِمٍ الصُّوفِيُّ الـمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِئَةٍ.

وَأَوْرَدَ صَاحِبُ (كَشْفُ الظُّنُونِ) في حَدِيثِهِ عَنْ عِلْمِ التَّصَوُّفِ كَلَامَاً للإِمَامِ القُشَيْرِيِّ قَالَ فِيهِ: (اعْلَمُوا أَنَّ الـمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمْ يَتَسَمَّ أَفَاضِلُهُمْ في عَصْرِهِمْ بِتَسْمِيَةِ عِلْمٍ سِوَى صُحْبَةِ الرَّسُولِ ﷺ، إِذْ لَا أَفْضَلِيَّةَ فَوْقَهَا، فَقِيلَ لَهُمُ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَتَبَايَنَتِ الـمَرَاتِبُ، فَقِيلَ لِخَوَاصِّ النَّاسِ ـــ مِمَّنْ لَهُمْ شِدَّةُ عِنَايَةٍ بِأَمْرِ الدِّينِ ـــ الزُّهَّادُ وَالعُبَّادُ، ثُمَّ ظَهَرَتِ البِدْعَةُ، وَحَصَلَ التَّدَاعِي بَيْنَ الفِرَقِ، فَكُلُّ فَرِيقٍ ادَّعَوْا أَنَّ فِيهِمْ زُهَّادَاً، فَانْفَرَدَ خَوَاصُّ أَهْلِ السُّنَّةِ الـمُرَاعُونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الحَافِظُونَ قُلُوبَهُمْ عَنْ طَوَارِقِ الغَفْلَةِ بِاسْمِ التَّصَوُّفِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا الاسْمُ لِهَؤُلَاءِ الأَكَابِرِ قَبْلَ الـمِائَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ.

مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ السَّابِقَةِ، يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ التَّصَوُّفَ لَيْسَ أَمْرَاً مُسْتَحْدَثَاً جَدِيدَاً، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ سِيرَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَحَيَاةِ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقَىً مِنْ أُصُولٍ لَا تَمُتُّ إِلَى الإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا يَزْعُمُ أَعْدَاءُ الإِسْلَامُ مِنَ الـمُسْتَشْرِقِينَ وَتَلَامِذَتِهِمُ الذينَ ابْتَدَعُوا أَسْمَاءً مُبْتَكَرَةً، فَأَطْلَقُوا اسْمَ التَّصَوُّفِ عَلَى الرَّهْبَنَةِ البُوذِيَّةِ، وَالكَهَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالشَّعْوَذَةِ الهِنْدِيَّةِ فَقَالُوا: هُنَاكَ تَصَوُّفٌ بُوذِيٌّ وَهِنْدِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَفَارِسِيٌّ...

يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَشْوِيهَ اسْمِ التَّصَوُّفِ مِنْ جِهَةٍ، وَاتِّهَامَ التَّصَوُّفِ بِأَنَّهُ يَرْجِعُ في نَشْأَتِهِ إِلَى هَذِهِ الأُصُولِ القَدِيمَةِ وَالفَلْسَفَاتِ الضَّالَّةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الـمُؤْمِنَ لَا يَنْسَاقُ بِتَيَّارَاتِهِمُ الفِكْرِيَّةِ، وَلَا يَقَعُ بِأَحَابِيلِهِمُ الـمَاكِرَةِ، وَيَتَبَيَّنُ الأُمُورَ، وَيَتَثَبَّتُ في البَحْثِ عَنِ الحَقِيقَةِ، فَيَرَى أَنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ التَّطْبِيقُ العَمَلِيُّ للإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا التَّصَوُّفُ الإِسْلَامِيُّ فَحَسْبُ.

رَحِمَ اللهُ تعالى شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرَ الجَزَاءِ مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

وَعَـلَى أَبِي أَيُّـوبَ حَلَّ فَـقِيدُنَا    ***   ضَـيْـفَـاً فَـكَـانَ لَـهُ المَقَامُ الأَرْفَعُ

بِـجِوَارِ مَنْ نَزَلَ الحَبِيبُ بِدَارِهِ    ***   وَاخْتَارَهُ بِـالـفَـضْـلِ رَبٌّ مُـبْـدِعُ

وَلَهُ مِنَ الـشَّهْبَـاءِ أَصْـلٌ ثَابِتٌ   ***   وَعَلَى ذُرَا اسْتَنْبُولَ مَـثْـوَىً يَسْطَعُ

ذِكْرَاهُ إِنْ ذُكِرَتْ ذُكَاءُ فَمَشْرِقٌ    ***   وَسَنَاهُ إِنْ طَلَعَ الهِلَالُ فَـمَـطْـلِـعُ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 29/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 30/آب / 2019م