3ـ الآخرة حق ثابت (2)

الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

3ـ الآخرة حق ثابت (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا) وَهُوَ يُثْبِتُ أَحَقِّيَّةَ الآخِرَةِ:

وَقَدْ مَدَحَ اللهُ تعالى في تِلْكَ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ أُولِي الأَلْبَابِ، الذينَ جَالَتْ أَفْكَارُهُمْ في أَنْحَاءِ العَالَمِ السَّمَاوِيِّ وَالأَرْضِيِّ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَبِذَلِكَ انْجَلَتْ لَهُمْ حَقَائِقُ الحَقِّ الذي بِهِ خُلِقَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَتَجَلَّتْ لَهُمْ حِكْمَةُ اللهِ تعالى في خَلْقِهِ بَدْءَاً وَانْتِهَاءً، وَحِكْمَةُ اللهِ تعالى في رِسَالَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ.

وَقَدْ ذَمَّ اللهُ تعالى الغَافِلِينَ عَنِ التَّفَكُّرِ، وَنَعَى عَلَى الذينَ لَا يُعْمِلُونَ أَفْكَارَهُمْ، فَلَا يَتَفَكَّرُونَ وَلَا يَتَعَقَّلُونَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾. الآيةَ.

وَالمَعْنَى: أَوَلَمْ يُثْبِتُوا وَيُحَقِّقُوا التَّفَكُّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ ـ أَيْ: في قُلُوبِهِمْ وَضَمَائِرِهِمُ النَّفْسِيَّةِ، أَيْ فَمَا لَهُمْ ـ قَبَّحَهُمُ اللهُ تعالى ـ رَضُوا أَنْ تَكُونَ قُلُوبُهُمْ فَارِغَةً مِنَ التَّعَقُّلِ، وَنُفُوسُهُمْ خَاوِيَةً مِنَ التَّفَكُّرِ؟! فَإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ الحَيَوَانِ البَهِيمِيِّ، وَلَيْسَتْ صِفَةَ الإِنْسَانِ العَاقِلِ، فَكَيْفَ بِهِمْ وَقَدْ رَضُوا أَنْ يَكُونُوا في عِدَادِ البَهَائِمِ الهَمَلِ، لَا تَفْكِيرَ لَهُمْ وَلَا تَعَقُّلَ في أَمْرِ هَذَا العَالَمِ، وَحِكْمَتِهِ وَنِهَايَتِهِ.

﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾.

يَعْنِي أَنَّهُمْ لَو رَجَعُوا إلى صَوَابِهِمْ، وَفَكَّرُوا في ضَمَائِرِ نُفُوسِهِمْ، لَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ تعالى مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلَاً وَلَا عَبَثَاً بِغَيْرِ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَهَا مَقْرُونَةً بِالحَقِّ، مَصْحُوبَةً بِالحِكْمَةِ، وَمُنْتَهِيَةً لِلحِكْمَةِ، وَإِنَّ مِنَ الحِكْمَةِ تَقْدِيرُ أَجَلٍ مُسَمَّىٍ وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ الحِسَابِ وَالجَزَاءِ: بِالثَّوَابِ أَو العِقَابِ.

﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾. الآيَةَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرْ هَؤُلَاءِ الغَافِلُونَ الهَمَلُ في أَنْفُسِهِمُ التي هِيَ أَقْرَبُ الخَلْقِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَوْدَعَ اللهُ تعالى في هَذِهِ النَّفْسِ مِنْ بَدَائِعِ الحِكْمَةِ، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ وَالصُّنْعِ، وَمِنْ ثَمَ ّيَتَطَلَّعُونَ إلى التَّفَكُّرِ في الآفَاقِ المُحِيطَةِ بِهِمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَبِذَلِكَ يَهْتَدُونَ إلى الحَقِّ الذي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الانْتِهَاءِ إلى أَجَلٍ مُسَمَّىً، وَهُوَ القِيَامَةُ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَزَاءِ وَالحِسَابِ.

ثانياً: تَنْبِيهُ القُرْآنِ الكَرِيمِ إلى أَنَّ النَّظَرَ في إِبْدَاعِ الإِنْسَانِ يُؤَدِّي إلى إِثْبَاتِ الآخِرَةِ.

قَالَ تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾. بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.

أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِأَفْضَلِ مَهَابِطِ الشَّرَائِعِ الإِلَهِيَّةِ المُبَارَكَةِ، وَمَنَازِلِ الوَحْيِ بِالكَلَامِ الإِلَهِيِّ النَّازِلِ عَلَى رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، مَهْبَطِ نُزُولِ الوَحْيِ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْزَالِ الإِنْجِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ البُقْعَةُ المُبَارَكَةُ مِنْ فَلَسْطِينَ، وَأَشَارَ إلى ذَلِكَ بِمَا يَنْبُتُ عَلَيْهَا مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ المُبَارَكَيْنِ، الكَثِيرَيْنِ في تِلْكَ البُقْعَةِ.

ثُمَّ أَقْسَمَ بِطُورِ سَيْنَاءَ، مَهْبَطِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

ثُمَّ أَقْسَمَ بِالبَلَدِ الأَمِينِ، بَلَدِ اللهِ الحَرَامِ، مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، مَهْبَطِ نُزُولِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَتَرْتِيبُ ذِكْرِ هَذِهِ المَوَاضِعِ هُنَا جَاءَ عَلَى طَرِيقِ التَّرَقِّي.

فَقَدْ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِمَهَابِطِ الوَحْيِ وَمَنَازِلِ الكَلَامِ الإِلَهِيِّ وَالتَّشْرِيعَاتِ الإِلَهِيَّةِ، عَلَى خَلْقِ هَذَا الإِنْسَانِ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَ ّتَعَهَّدَهُ بِمَا يُسْعِدُهُ وَيُصْلِحُ شَأْنَهُ في أَمْرِ التَّشْرِيعِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾. أَيْ: في أَحْسَنِ كَمَالٍ وَاعْتِدَالٍ في الصُّورَةِ وَالمَعْنَى.

قَالَ العَلَّامَةُ الرَّاغِبُ: تَقْوِيمُ الشَّيْءِ: تَثْقِيفُهُ؛ قَالَ اللهُ تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾. وَذَلِكَ إِشَارَةً إلى مَا خُصَّ بِهِ الإِنْسَانَ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الحَيَوَانِ: مِنَ العَقْلِ، وَالفَهْمِ، وَانْتِصَابِ القَامَةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِيلَائِهِ عَلَى كُلِّ مَا في العَالَمِ. اهـ.

﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾. وَجِيءَ هُنَا بِثُمَّ لِيُشِيرَ إلى مَا طُوِيَ ذِكْرُهُ، وَلَكِنْ دَلَّ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَهُ، وَالمَعْنَى: خَلَقْنَا الإِنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَلَكِنْ لَمْ نُهْمِلْهُ، وَلَمْ نَتْرُكْهُ سُدَىً، بَلْ تَعَهَّدْنَاهُ بِالهُدَى، وَإِنْزَالِ الـشَّرِيعَةِ، وَبَيَانِ الأَحْكَامِ التي فِيهَا سَعَادَتُهُ وَصَلَاحُهُ، لِيُحْفَظَ عَلَيْهِ حُسْنُ تَقْوِيمِهِ وَكَمَالُهُ الإِنْسَانِيُّ، فَإِنَّ اللهَ تعالى الذي أَحْسَنَ الخَلْقَ وَالتَّقْوِيمِ؛ قَدْ أَحْسَنَ وَأَحْكَمَ الشَّرْعَ الحَكِيمَ، وَجَعَلَ هَذَا الشَّرْعَ الإِلَهِيَّ وَاقِيَاً للإِنْسَانِ مِنَ النَّقْصِ وَالتَّدَنِّي في حَضِيضِ البَهِيمِيَّةِ الحَيَوَانِيَّةِ، رَاقِيَاً مِنَ الإِنْسَانِ الحَيَوَانِيِّ إلى الإِنْسَانِ الرَّبَّانِيِّ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 4/تموز / 2019م