661ـ خطبة الجمعة: الامتحان الأعظم

661ـ خطبة الجمعة: الامتحان الأعظم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: اقْتَرَبَ وَقْتُ صُدُورِ نَتَائِجِ الامْتِحَانِ للطُّلَّابِ، وَكُلَمَا اشْتَدَّ قُرْبُ الوَقْتِ لِصُدُورِ النَّتَائِجِ رَأَيْتَ وُجُوهَ الطُّلَّابِ في حَالَةِ اضْطِرَابٍ مَعَ ذَوِيهِمْ، يَرْقُبُونَ صُدُورِ النَّتَائِجِ، وَهُمْ يَرْجُونَ اللهَ تعالى النَّجَاحَ.

مَعَ العِلْمِ بِأَنَّ الأَمْرَ يَسِيرٌ، لِأَنَّهُ لَو فَاتَهُ النَّجَاحُ فَبِالإِمْكَانِ إِعَادَةُ الامْتِحَانِ، أَو في دَوْرَةٍ ثَانِيَةٍ أَو تَكْمِيلِيَّةٍ، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ كَسْرُ الطَّالِبِ بِبَعْضِ الدَّرَجَاتِ، وَرُبَّمَا أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الدِّرَاسَةِ بِأَكْمَلِهَا، وَيَلْتَفِتَ إلى عَمَلٍ آخَرَ يَضْمَنُ فِيهِ سَعَادَتَهُ الدُّنْيَوِيَّةَ.

الامْتِحَانُ الأَعْظَمُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: نَتَائِجُ الامْتِحَانِ في الدُّنْيَا تَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى وُجُوهِ الطُّلَّابِ، وَالكُلُّ يَخَافُ مِنَ الرُّسُوبِ وَالسُّقُوطِ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَنَّ سَنَةً كَامِلَةً مِنْ عُمُرِهِ ذَهَبَتْ سُدَىً، وَهَذَا مِنْ حَقِّهِ، وَمِنْ حَقِّ ذَوِيهِ أَنْ يَتَأَثَّرُوا عَلَى رُسُوبِهِ سَنَةً، لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ سُدَىً.

إِذَا كَانَ هَذَا في امْتِحَانِ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ بِالامْتِحَانِ الأَعْظَمِ الذي مَا بَعْدَهُ إِلَّا النَّعِيمُ الأَبَدِيُّ في جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ بِرِفْقَةِ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَو الشَّقَاءُ طَوِيلُ الأَمَدِ في نَارٍ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ، لَا يَمُوتُ فِيهَا فَيَسْتَرِيحُ، وَلَا يَحْيَا فِيهَا حَيَاةً طَيِّبَةً كَرِيمَةً، بَلْ ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: تَصَوَّرُوا مَوْقِفَ الطُّلَّابِ وَالآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَالإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ نَتَائِجَ الامْتِحَانِ في الدُّنْيَا، وَتَصَوَّرُوا المَوْقِفَ يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾. قَدْ شُغِلَ كُلُّ امْرِئٍ بِنَفْسِهِ، لَا يَسْأَلُ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.

تَصَوَّرُوا هَذَا المَوْقِفَ وَالنَّاسُ جَمِيعَاً يُدْعَوْنَ لِأَخْذِ نَتَائِجِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَسِيقَ إلى الجَنَّةِ فَهَذَا هُوَ الفَائِزُ، وَيَقُولُ بِكُلِّ فَرَحٍ وَسُرُورٍ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.

وَأَمَّا مَنْ أَخَذَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَسِيقَ سَوْقَ إِذْلَالٍ إلى النَّارِ فَهُوَ الخَاسِرُ الخُسْرَانَ المُبِينَ، وَيَقُولُ ـ وَالأَسَى وَالأَلَمُ وَالحُزْنُ وَالكَرْبُ وَالشِّدَّةُ تَعْتَصِرُ قَلْبَهُ ـ: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعَاً فَاسْلُكُوهُ﴾. وَيَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلَاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولَاً﴾. وَيَقُولُ: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحَاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾. وَيَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾. وَالحَسْرَةُ تَزْدَادُ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَرَى النَّاجِحِينَ وَالمُفْلِحِينَ، وَهُمْ يُنَادَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا أَنَّنَا مَا زِلْنَا في قَاعَةِ الامْتِحَانِ، مَا زِلْنَا في حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، فَهَلْ مِنْ مُرَاجِعٍ لِأَعْمَالِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِيَسْأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَا نَفْسَهُ هَلْ: عَمَلِي أَنَا عَمَلُ الصَّالِحِينَ؟ هَلْ أَنَا مِنْ أَهْلِ المُرَاقَبَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِمَّنْ لَا يَغْفُلُونَ عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؟ هَلْ أَنَا مِنَ المُتَعَبِّدِينِ؟ هَلْ أَنَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الشَاكِرِينَ الصَّابِرِينَ الوَقَّافِينَ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تعالى؟ هَلْ عَمَلِي عَمَلُ أَهْلِ الجَنَّةِ؟

وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾. وَتَنَبَّهُوا إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾. وَلَمْ يَقُلْ: بَصِيرٌ، فَكَلِمَةُ بَصِيرَةٌ مِنَ المُبَالَغَةِ، كَمَا نَقُولُ عَنِ العَالِمِ عَلَّامَةٌ.

يَا عِبَادَ اللهِ: المَقَايِيسُ كُلُّهَا تَتَبَدَّلُ في سَاعَةِ المَوْتِ، كُلُّ مَا كُنَّا نُنَازِعُ عَلَيْهِ صَارَ عَدَمَاً، بَنَيْنَا بُيُوتَاً وَمَحَلَّاتٍ فَمَا نَحْمِلُ مَعَنَا مِنْهَا حَجَرَاً، وَجَمَعْنَا مَالاً فَمَا بَقِيَ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَفَعَلْنَا الطَّاعَاتِ فَذَهَبَتْ مَشَقَّتُهَا وَبَقِيَ أَجْرُهَا، وَفَعَلْنَا المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ فَذَهَبَتْ لَذَتُهَا وَبَقِيَ وِزْرُهَا.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِنَ النَّادِمِينَ عِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 5/ تموز / 2019م