5ـ أحكام الآبار (1)

الفقه الإسلامي

5ـ أحكام الآبار (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

أولاً: القِيَاسُ في الآبَارِ إِذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ أَنْ لَا تَطْهُرَ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَطْهِيرِهَا بِسَبَبِ اخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالجُدْرَانِ وَالرِّشَاءِ، فَإِذَا نَزَحَ المَاءُ بَقِيَ الطِّينُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَكُلَّمَا نَبَعَ مَاءٌ جَدِيدٌ تَنَجَّسَ، لَكِنِ العُلَمَاءُ تَرَكُوا القِيَاسَ، لِمَا رُوِيَ مِنَ الآثَارِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ أَنَّ الآبَارَ تَطْهُرُ بِنَزْحِهَا.

وَلَا بُدَّ لَنَا قَبْلَ أَنْ نُبَيِّنَ أَحْكَامَ الآبَارِ أَنْ نَذْكُرَ القَوَاعِدَ العَامَّةَ، وَهِيَ:

1ـ أَنَّ المَاءَ إِذَا كَانَ كَثِيرَاً لَا يَتَنَجَسُ، إِلَّا إِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ: اللَّوْنُ أَو الطَّعْمُ أَو الرَّائِحَةُ.

2ـ المَاءُ القَلِيلُ يَتَنَجَّسُ وَلَو لَمْ تَتَغَيَّرْ أَوْصَافُهُ.

المَاءُ الكَثِيرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا كَانَ قُلَّتَيْنِ أَو أَكْثَرَ، وَعِنْدَ الحَنَفِيَّةِ مَا كَانَتْ مَسَاحَتُهُ مِقْدَارَ عَشْرَةِ أَذْرُعٍ طُولَاً وَعَشْرَةِ أَذْرُعٍ عَرْضَاً.

ثانياً: بَعْدَ ذَلِكَ نَسْتَعْرِضُ أَحْكَامَ الآبَارِ ضِمْنَ الحَالَاتِ التَّالِيَةِ وَهِيَ:

أَنَّ الوَاقِعَ في البِئْرِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانَاً أَو غَيْرَهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:

الحَالَةُ الأُولَى:

أَنْ يَقَعَ في البِئْرِ آدَمِيٌّ أَو حَيَوَانٌ وَيَبْقَى حَيَّاً وَهُنَا مَسَائِلُ:

1ـ إِنْ وَقَعَ الآدَمِيُّ أَو الحَيَوَانُ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ المَاءُ لِوُجُودِ النَّجَاسَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحَيَوَانُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَو غَيْرَ مَأْكُولِهِ.

2ـ إِذَا وَقَعَ الحَيَوَانُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَلَكِنْ وَصَلَ لُعَابُهُ إلى المَاءِ يَتَنَجَّسُ المَاءُ إِذَا كَانَ لُعَابُهُ نَجِسَاً، كَلُعَابِ سِبَاعِ البَهَائِمِ وَالكَلْبِ، وَسَائِرِ الحَيَوَانَاتِ غَيْرِ المَأْكُولَةِ، وَيَبْقَى عَلَى طَهَارَتِهِ إِنْ كَانَ اللُّعَابُ طَاهِرَاً: كَالآدَمِيِّ وَالحَيَوَانَاتِ المَأْكُولَة اللَّحْمِ.

3ـ إِنْ وَقَعَ خِنْزِيرٌ وَلَو خَرَجَ حَيَّاً وَلَو لَمْ يُصِبْ فَمَهُ المَاءُ تَنَجَّسَ المَاءُ مَتَى وَصَلَ أَيُّ جُزْءٍ مِنْهُ للمَاءِ، لِأَنَّهُ نَجِسُ العَيْنِ.

الحَالَةُ الثَّانِيَةُ:

أَنْ يَقَعَ في البِئْرِ آدَمِيٌّ أَو حَيَوَانٌ وَيَمُتَ في المَاءِ، وَهُنَا مَسَائِلُ أَيْضَاً:

1ـ إِذَا كَانَ الوَاقِعُ حَيَوَانَاً لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، كَالصَّرَاصِيرِ وَالذُّبَابِ وَالخَنَافِسِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ المَاءُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِغَمْسِهِ، وَلَا بُدَّ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ خُصُوصَاً إِذَا كَانَ الشَّرَابُ حَارَّاً، فَلَو كَانَ المَاءُ يَنْجُسُ لَمَا أَمَرَ بِغَمْسِهِ.

2ـ إِذَا كَانَ الحَيَوَانُ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الحَيَوَانَاتِ المَائِيَّةِ التي لَا تَعِيشُ إِلَّا في المَاءِ: كَالسَّمَكِ، فَلَا يَنْجُسُ المَاءُ بِمَوْتِهِ بِالاتِّفَاقِ.

3ـ إِذَا كَانَ الحَيَوَانُ غَيْرَ مَائِيٍّ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ المَاءُ بِمَوْتِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَيَوَانَاً مَأْكُولَ اللَّحْمِ، أَو غَيْرَ مَأْكُولِهِ، أَو يَعِيشُ في البَحْرِ كَالضِّفْدَعِ وَالتِّمْسَاحِ.

4ـ إِذَا وَقَعَ في البِئْرِ آدَمِيٌّ وَمَاتَ في المَاءِ، فَإِنَّ المَاءَ يَنْجُسُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُمَا أَفْتَيَا بِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ لِمَوْتِ زِنْجِيٍّ فِيهِ.

وَذَلِكَ خِلَافَاً للشَّافِعِيِّ، حَيْثُ ذَهَبَ إلى عَدَمِ نَجَاسَةِ المَاءِ بِمَوِتِ الآدَمِيِّ، وَلَو كَانَ كَافِرَاً، إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، مُسْتَدِلَّاً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ» رواه الإمام البخاري.

الحَالَةُ الثَّالِثَةُ:

وُقُوعُ نَجَاسَةٍ في المَاءِ، وَهُنَا مَسَائِلُ أَيْضَاً:

1ـ إِذَا وَقَعَتْ في البِئْرِ نَجَاسَةٌ، مِثْلُ البَوْلِ أَو الغَائِطِ أَو الدَّمِ تَنَجَّسَتِ البِئْرُ، وَوَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ البِئْرِ، بَعْدَ إِخْرَاجِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ، وَيَكُونُ النَّزْحُ طَهَارَةً للبِئْرِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ وَيَدِ المُسْتَسْقِي.

2ـ إِذَا وَقَعَ في البِئْرِ شَيْءٌ مِنْ بَعْرِ الإِبِلِ أَو الغَنَمِ أَو المَاعِزِ أَو رَوْثِ الخَيْلِ أَو خَثْيِ البَقَرِ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: يَنْجُسُ المَاءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالغَائِطِ، لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: «إِنَّهَا رِكْسٌ» رواه الترمذي.

وَأَمَّا الحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ كَثِيرَاً تَنَجَسَتِ المَاءُ، وَوَجَبَ نَزْحُهَا، وَحَدَّ الكَثِيرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ: أَنْ يُغَطِّيَ رُبُعَ وَجْهِ المَاءِ، وَقِيلَ: أَنْ لَا يَخْلُوَ دَلْوٌ عَنْ بَعْرَةٍ، أَو أَنْ يَسْتَكْثِرَهُ النَّاظِرُ.

وَإِنْ كَانَ قَلِيلَاً لَمْ يَتَنَجَسِ المَاءُ اسْتِحْسَانَاً، وَالقِيَاسُ أَنْ يَتَنَجَسَ، لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ في المَاءِ القَلِيلِ، وَوَجْهُ الاسْتِحْسَانِ: أَنَّ آبَارَ الفَلَوَاتِ تَبْعُرُ المَوَاشِي حَوْلَهَا فَيَسْقُطُ فِيهَا البَعْرُ وَنَحْوُهُ، لِعَدَمِ الحَوَاجِزِ فَكَانَ في القَلِيلِ ضَرُورَةٌ.

3ـ إِذَا وَقَعَ خُرْءُ الدَّجَاجِ وَالبَطِّ في المَاءِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُهُ.

4ـ إِذَا وَقَعَ في المَاءِ خُرْءُ الطُّيُورِ المَأْكُولَةِ اللَّحْمِ غَيْرِ الدَّجَاجِ وَالبَطِّ وَالأَوْزِ، وَذَلِكَ مِثْلُ خُرْءِ الطُّيُورِ وَالحَمَامِ وَنَحْوِهِمَا، لَا يَنْجُسُ المَاءُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَسَحَ خُرْءَ الحَمَامِ عَنْهُ بِأُصْبُعِهِ.

5ـ إِذَا وَقَعَ في المَاءِ خُرْءُ الطُّيُورِ غَيْرِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ فَلَا يَنْجُسُ المَاءُ أَيْضَاً في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ مُحَمَدٍ، لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَزَرْقُ سِبَاعِ الطُّيُورِ يُفْسِدُ الثَّوْبَ إِذَا فَحُشَ، وَيُفْسِدُ مَاءَ الأَوَانِي، وَلَا يُفْسِدُ مَاءَ البِئْرِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: خُرْءُ الطُّيُورِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا يُفْسِدُ مَاءَ البِئْرِ، قِيَاسَاً عَلَى خُرْءِ الدَّجَاجِ، وَلِأَنَّهُ رِكْسٌ.

ثالثاً: إِذَا تَنَجَسَتِ البِئْرُ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فِيهَا بِأَنْ كَانَ المَاءُ قَلِيلَاً، وَقَدْ عَرَفْنَا حَدَّ القِلَّةِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَو لَمْ تَتَغَيَّرْ أَوْصَافُهُ أَو كَانَ كَثِيرَاً وَتَغَيَّرَتْ بَعْضُ أَوْصَافِهِ وَجَبَ نَزْحُ البِئْرِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ نَزْحُ كُلِّ المَاءِ بِأَنْ كَانَتِ البِئْرُ مَعِينَاً، وَجَبَ أَنْ يَنْزَحَ مِنْهَا مِائَتَا دَلْوٍ وُجُوبَاً، وَيُضَافُ لَهَا مِئَةٌ اسْتِحْبَابَاً، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ.

 

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 5/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 8/تموز / 2019م