46ـ تكفينهما بعد موتهما

بر الوالدين

46ـ تكفينهما بعد موتهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَضْلُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرٌ جِدَّاً، وَمَهْمَا قَدَّمَ الوَلَدُ مِنَ الخِدْمَةِ لِوَالِدَيْهِ فَلَنْ يَجْزِيَهُمَا، وَبِرُّ الوَلَدِ بِوَالِدَيْهِ لَا يَنْتَهِي بِمَوْتِهِمَا، بَلْ يَنْتَهِي بِمَوْتِهِ هُوَ.

فَمِنْ حَقِّ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ إِذَا مَاتَا، أَو مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَنْ يُكَفِّنَهُ بَعْدَ تَغْسِيلِهِ، لِأَنَّ الفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ المَيْتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الكِفَايَةِ، وَيَكُونُ قِيمَةُ الكَفَنِ مِنْ مَالِ الوَالِدِ إِنْ كَانَ هُوَ المَيْتُ، أَو مِنْ مَالِ الوَالِدَةِ إِنْ كَانَتْ هِيَ المَيْتَةُ، هَذَا إِذَا تَرَكَا مَالَاً، وَإِلَّا فَمِنْ مَالِ الوَلَدِ.

وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «البَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ البَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».

وروى الإمام مسلم عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللهِ، نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئَاً، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ، خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ، خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ».

وفي رِوَايَةٍ للبخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ ـ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ ـ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُحْرِمَاً بِحَجٍّ مَثَلَاً، فَإِنَّهُ يُكَفَّنُ بِثَوْبَيْهِ اللذَيْنِ هُوَ مُحْرِمٌ بِهِمَا.

وروى الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، في قِصَّةِ الرَّجُلِ الذي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَمَاتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيَاً».

صِفَةُ الكَفَنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ المَيْتَ يُكَفَّنُ بَعْدَ تَغْسِيلِهِ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِ مَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ في حَالِ الحَيَاةِ، فَيُكَفَّنُ بِالجَائِزِ مِنَ اللِّبَاسِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ بِالحَرِيرِ.

أَمَّا المَرْأَةُ فَيَجُوزُ تَكْفِينُهَا بِالحَرِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُهُ في الحَيَاةِ، لَكِنْ مَعَ الكَرَاهَةِ، لِأَنَّ فِيهِ سَرَفَاً وَيُشْبِهُ إِضَاعَةَ المَالِ، بِخِلَافِ لُبْسِهَا إِيَّاهُ في الحَيَاةِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ شَرْعَاً.

وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، في إِزَارٍ وَلُفَافَتَيْنِ بِيضٍ، مِنْ قُطْنٍ، وَهُوَ الأَفْضَلُ.

روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ، وَلَا عِمَامَةٌ.

سَحُولِيَّةٌ: وَهِيَ ثِيَابٌ بِيضٌ نَقِيَّةٌ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ القُطْنِ؛ مِنْ كُرْسُفٍ: مِنْ قُطْنٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ في خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ بِالاتِّفَاقِ؛ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ أَبْيَضَ.

وَيُنْدَبُ الإِحْسَانُ في الكَفَنِ، روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَاً، فَذَكَرَ رَجُلَاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، أَيْ: حَقِيرٍ غَيْرِ كَامِلِ السَّتْرِ، وَقُبِرَ لَيْلَاً، فَزَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ».

لَكِنْ مَعَ تَحْسِينِ الكَفَنِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ مُغَالَاةٌ، لِأَنَّ الحَيَّ أَوْلَى بِالجَدِيدِ الغَالِي.

روى أبو داود عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَا تُغَالِ لِي فِي كَفَنٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَغَالَوْا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُهُ سَلْبَاً سَرِيعَاً».

وروى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

قَالَتْ: «فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ».

وَقَالَ لَهَا: فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

قَالَتْ: «يَوْمَ الِاثْنَيْنِ».

قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟

قَالَتْ: «يَوْمُ الِاثْنَيْنِ».

قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ، كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ، فَكَفِّنُونِي فِيهَا.

قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ.

قَالَ: إِنَّ الحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ المَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ.

وَيُجْمَعُ بَيْنَ حَدِيثَيْ جَابِرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في تَحْسِينِ الكَفَنِ وَعَدَمِ المغَالَاةِ، بِحَمْلِ التَّحْسِينِ عَلَى الصِّفَةِ، بِأَنْ يَكُونَ أَبْيَضَ نَظِيفَاً، وَكَذَا سَوْغُهُ وَكَثَافَتُهُ، وَحَمْلُ المُغَالَاةِ عَلَى الثَّمَنِ.

وَقِيلَ: التَّحْسِينُ حَقُّ المَيْتِ، فَإِذَا أَوْصَى بِتَرْكِهِ اتُّبِعَ، كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتَارَ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَىً فِيهِ، مِنَ التَّبَرُّكِ بِهِ، لِكَوْنِهِ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَو لِكَوْنِهِ جَاهَدَ فِيهِ، أَو تَعَبَّدَ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدِهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ حَضَرَهُ المَوْتُ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنْت أُصَلِّي فِيهِمَا.

وَيَجُوزُ التَّكْفِينُ بِالقَمِيصِ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ، حَيْثُ كَفَّنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَمِيصِهِ، بِطَلَبٍ مِنْ وَلَدِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ المَيْتُ شَهِيدَاً فَإِنَّهُ يُكَفَّنُ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَو كَانَ ثَوْبَاً وَاحِدَاً.

وَاخْتِيَارُ الكَفَنِ وَنَظَافَتُهُ مَطْلُوبٌ، لِأَنَّهُ يُبْعَثُ فِيهِمَا، وَيُحْشَرُ فِيهِمَا.

روى أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ، دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَأَخِيرَاً يُسْتَحَبُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ تَبْخِيرُ أَكْفَانِ المَيْتِ بِالعُودِ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ العُودُ عَلَى النَّارِ في مِجْمَرٍ، ثُمَّ يُبَخَّرَ بِهِ الكَفَنُ حَتَّى تَعْبَقَ رَائِحَتُهُ وَيَطِيبَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُرَشَّ عَلَيْهِ مَاءُ الوَرْدِ لِتَعْلَقَ الرَّائِحَةُ بِهِ.

وَتُجَمَّرُ الأَكْفَانُ قَبْلَ أَنْ يُدْرَجَ المَيْتُ فِيهَا وِتْرَاً.

وَأَمَّا أَنْوَاعُ الكَفَنِ، فَسَوْفَ نَتَحَدَّثُ عَنْهَا في الدَّرْسِ القَادِمِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى لَنَا وَلِوَالِدِينَا حُسْنَ الخِتَامِ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 25/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 28/ تموز / 2019م