12ـ كلمات حول الروح الإنساني (2)

12ـ كلمات حول الروح الإنساني (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

وَقَدْ كَثُرَتْ أَقْوَالُ العُلَمَاءِ في الفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ العَوَالِمِ الثَّلَاثَةِ، وَالحَقُّ مَا قَالَهُ مُحَقِّقُو العَارِفِينَ نَفَعَنَا اللهُ تعالى بِهِمْ أَجْمَعِينَ:

أَنَّ عَالَمَ الأَمْرِ ـ وَيُسَمَّى: عَالَمَ المَلَكُوتِ ـ هُوَ عَالَمُ الأَرْوَاحِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ وَالنُّفُوسِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُوجَدُ بِأَمْرِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ بِلَا وَاسِطَةِ مَادِّةٍ وَمُدَّةٍ.

وَأَنَّ عَالَمَ المُلْكِ ـ وَيُسَمَّى: عَالَمَ الشَّهَادَةِ ـ هُوَ عَالَمُ الأَجْسَامِ وَالجِسْمَانِيَّاتِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ بَعْدَ الأَمْرِ بِمَادِّةٍ وَمُدَّةٍ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ التَّرْكِيبُ وَالتَّوَالُدُ.

وَأَمَّا عَالَمُ الجَبَرُوتِ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ العَارِفُونَ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الجَبْرِ وَهُوَ القَهْرُ، فَيَشْمَلُ عَالَمَ البَرْزَخِ بَعْدَ المَوْتِ، وَعَالَمَ مَوْقِفِ الحَشْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا يَظْهَرُ حُكْمُ القَهْرِ الإِلَهِيِّ.

وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الإِجْبَارِ بِمَعْنَى الاسْتِعْلَاءِ، فَيَشْمَلُ عَالَمَ العُقُولِ وَالنُّفُوسِ المُجَرَّدَةِ، لِاسْتِعْلَاءِ هَذَا العَالَمِ عَنْ تَرَكُّبِهِ مِنَ العَنَاصِرِ.

وَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي طَالِبٍ المَكِّيِّ: هُوَ عَالَمُ العَظَمَةِ، فَيَشْمَلُ عَالَمَ الآخِرَةِ، وَعَالَمَ أَرْضِ الحَقِيقَةِ التي تُرَى فِيهَا الأَشْيَاءُ عَلَى حَقَائِقِهَا.

وَقَدْ حَثَّ اللهُ تعالى عِبَادَهُ أَنْ يَنْظُرُوا في العَالَمَيْنِ: عَالَمِ المُلْكِ، وَعَالَمِ المَلَكُوتِ، وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ لِافْتِرَاقِ العَالَمَيْنِ:

فَقَالَ تعالى في عَالَمِ المُلْكِ: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾. الآيَات.

وَقَالَ تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾.

فَالنَّظَرُ في هَذِهِ الآيَاتِ مُتَعَدٍّ لِمَا بَعْدَهُ بِإِلَى، لِأَنَّ المَنْظُورَ إِلَيْهِ يُرَى بِحَاسَّةِ البَصَرِ وَهِيَ العَيْنُ، وَيُشْهَدُ حِسَّاً.

وَأَمَّا عَالَمُ المَلَكُوتِ فَقَالَ تعالى فِيهِ: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ﴾. الآيَةَ.

فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَالمُرَادُ بِذَلِكَ نَظَرُ التَّفَكُّرِ وَالاعْتِبَارِ وَالتَّعَقُّلِ، وَالاسْتِبْصَارِ في المَلَكُوتِ الذي أَقَامَ اللهُ تعالى بِهِ الأَشْيَاءَ، وَأَمْسَكَ بِهِ عَلَيْهَا قُوَاهَا وَقِوَامَهَا، وَهَذَا مِنَ الأُمُورِ الغَيْبِيَّةِ التي لَا يَرَاهَا إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللهُ تعالى عَلَى مَا شَاءَ مِنْهَا، وَأَشْهَدَهُ ذَلِكَ، قَالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾.

وَأَعْظَمُ مَنْ أَرَاهُ اللهُ تعالى ذَلِكَ وَأَطْلَعَهُ عَلَى جَمِيعِ مَا هُنَالِكَ؛ هُوَ السَّيِّدُ الأَكْرَمُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ مُخْبِرَاً عَنْ ذَلِكَ المَشْهَدِ: «فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْتُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾».

كَمَا جَاءَ في: (سُنَنِ) الترمذي وَ (مُسْنَدِ) أَحمد وغَيْرِهِمَا.

وفي رِوَايَةِ الترمذي: «فَعَلِمْتُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ».

وفي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: «فَعَلَّمَنِي كُلَّ شَيْءٍ».

 

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 3/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 31/ تشرين الأول / 2019م