159ـ صبر ورضا أبي عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

159ـ صبر ورضا أبي عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ القَلْبَ يَخْتَلِفُ في مَادَّةِ حَيَاتِهِ عَنِ البَدَنِ، حَيَاةُ القَلْبِ بِالإِيمَانِ بِاللهِ تعالى، وَبِالرِّضَا عَنْ قَضَائِهِ، قَلْبُ المُؤْمِنِ يَسْتَمِدُّ حَيَاتَهُ مِنَ المِحَنِ، وَقِيمَةُ العَبْدِ عِنْدَ اللهِ تعالى بِمَا يَحْتَوِيهِ قَلْبُهُ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَيْسَتْ قِيمَةُ العَبْدِ بِظَاهِرِهِ «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ. رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

رُبَّ رَجُلٍ سَمِينٍ عَظِيمٍ بَدِينٍ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَرُبَّ رَجُلٍ نَحِيفٍ شَدِيدِ النَّحَافَةِ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ إِلَّا اللهُ تعالى.

روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكَاً مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟».

قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ.

فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ العَبْدَ لَا يُوزَنُ عِنْدَ اللهِ تعالى بِجِسْمِهِ، إِنَّمَا يُوزَنُ بِقَلْبِهِ، فَلَئِنْ يَذْهَبْ العَبْدُ إلى اللهِ تعالى بِكُلِّ مَرَضٍ في جَسَدِهِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِأَلْفِ مَرَّةٍ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ إلى اللهِ تعالى وَهُوَ مَرِيضُ القَلْبِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾

مَوْقِفُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ في الصَّبْرِ وَالرِّضَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ. رواه الإمام البخاري.

فَالحَيَاةُ الدُّنْيَا لَا تَطِيبُ بِشَيْءٍ مِثْلِ الصَّبْرِ، فَالمُؤْمِنُ يَتَعَلَّقُ بِاللهِ تعالى في المَصَائِبِ، فَلَا يَقْلَقُ وَلَا يَجْزَعُ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِأَنَّ اللهَ تعالى سَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ، إِمَّا بِإِزَالَةِ المَصَائِبِ، وَإِمَّا بِالأَجْرِ عَلَيْهَا.

روى الترمذي عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَنْظُرْ إلى مَوْقِفٍ مِنَ المَوَاقِفِ الإِيمَانِيَّةِ في الصَّبْرِ عَلَى البَلَاءِ، وَالرِّضَا بِالقَضَاءِ، الذي تَجَسَّدَ في سَيِّدِنَا أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ العَشَرَةِ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ.

كَانَ سَيِّدُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ قَائِدَ جَيْشٍ مِنَ جُيُوشِ المُسْلِمِينَ في بِلَادِ الشَّامِ، وَفَتَحَ اللهُ تعالى عَلَى يَدَيْهِ الدِّيَارَ الشَّامِيَّةَ كُلَّهَا، وَفي حِينِهَا دَهَمَ بِلَادَ الشَّامِ طَاعُونٌ مَا عَرَفَ النَّاسُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَجَعَلَ يَحْصُدُ النَّاسَ حَصْدَاً.

فَمَا كَانَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَّا أَنْ وَجَّهَ رَسُولَاً إلى أَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِرِسَالَةٍ يَقُولُ فِيهَا:

إِنِّي بَدَتْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ لَا غِنَى لِي عَنْكَ فِيهَا، فَإِنْ أَتَاكَ كِتَابِي لَيْلَاً فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ أَلَّا تُصْبِحَ حَتَّى تَرْكَبَ إِلَيَّ، وَإِنْ أَتَاكَ نَهَارَاً فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ أَلَّا تُمْسِيَ حَتَّى تَرْكَبَ إِلَيَّ.

فَلَمَّا أَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ كِتَابَ الفَارُوقِ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ حَاجَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ إِلَيَّ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَبْقِيَ مَنْ لَيْسَ بِبَاقٍ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ:

يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ إِلَيَّ، وَإِنِّي في جُنْدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَا أَجِدُ في نَفْسِي رَغْبَةً عَنِ الذي يُصِيبُهُمْ؛ وَلَا أُرِيدُ فِرَاقَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيَّ وَفِيهِمْ أَمْرَهُ.

فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَحَلِّلْنِي مِنْ عَزْمِكَ، وَائْذَنْ لِي بِالبَقَاءِ.

فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الكِتَابَ بَكَى حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ ـ لِشِدَّةِ مَا رَأَوْهُ مِنْ بُكَائِهِ ـ: أَمَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِنَّ المَوْتَ مِنْهُ قَرِيبٌ.

وَلَمْ يَكْذِبْ ظَنُّ الفَارُوقِ، إِذْ مَا لَبِثَ أَبُو عُبَيْدَةَ أنْ أُصِيبَ بِالطَّاعُونِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ أَوْصَى جُنْدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ إِنْ قَبِلْتُمُوهَا لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَتَصَدَّقُوا، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَتَوَاصَوْا، وَانْصَحُوا لِأُمَرَائِكُمْ وَلَا تَغُشُّوهُمْ.

وَلَا تُلْهِكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّ المَرْءَ لَو عُمِّرَ أَلْفَ حَوْلٍ مَا كَانَ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إلى مَصْرَعِي هَذَا الذي تَرَوْنَ.

إِنَّ اللهَ كَتَبَ المَوْتَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَهُمْ مَيِّتُونَ، وَأَكْيَسُهُمْ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ، وَأَعْلَمُهُمْ لِيَوْمِ مَعَادِهِ.

وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.

وروى الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: لَمَّا طُعِنَ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ: يَا مُعَاذُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى مُعَاذٌ بِالنَّاسِ، ثُمَّ مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَامَ مُعَاذٌ فِي النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ تَوْبَةً نَصُوحَاً، فَإِنَّ عَبْدَ اللهِ لَا يَلْقَى اللهَ تَائِبَاً مِنْ ذَنْبِهِ إِلَّا كَانَ حَقَّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُجِعْتُمْ بِرَجُلٍ وَاللهِ مَا أَزْعُمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِنْ عِبَادِ اللهِ عَبْدَاً قَطُّ أَقَلَّ غَمْزَاً وَلَا أَبَرَّ صَدْرَاً، وَلَا أَبْعَدَ غَائِلَةً، وَلَا أَشَدَّ حُبَّاً لِلْعَاقِبَةِ، وَلَا أَنْصَحَ لِلْعَامَّةِ مِنْهُ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَصْحِرُوا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ لَا يَلِي عَلَيْكُمْ مِثْلَهُ أَبَدَاً.

فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَأُخْرِجَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَتَقَدَّمَ مُعَاذٌ فَصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا أَتَى بِهِ قَبْرَهُ دَخَلَ قَبْرَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمَّا وَضَعُوهُ فِي لَحْدِهِ وَخَرَجُوا فَشَنُّوا عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، لَأُثْنِيَنَّ عَلَيْكَ وَلَا أَقُولُ بَاطِلَاً أَخَافُ أَنْ يَلْحَقَنِي بِهَا مِنَ اللهِ مَقْتٌ كُنْتَ وَاللهِ مَا عَلِمْتُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهِ كَثِيرَاً، وَمِنَ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنَاً، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامَاً، وَمِنَ الَّذِينَ إِذَا أَنْفِقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَاً وَكُنْتَ وَاللهِ مِنَ الْمُخْبَتِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِي يَرْحَمُونَ الْيَتِيمَ وَالْمِسْكِينَ وَيَبْغُضُونَ الْخَائِنِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ: اللَّهُمَ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 3/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 31/ تشرين الأول / 2019م