14ـ كلمات حول الروح الإنساني (4)

14ـ كلمات حول الروح الإنساني (4)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

ثالثاً: ذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ إلى أَنَّ الأَرْوَاحَ الإِنْسَانِيَّةَ مْخلُوقَةٌ قَبْلَ الأَجْسَادِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا جَاءَ في حَدِيثِ المِعْرَاجِ المَرْوِيِّ في: (الصَّحِيحَيْنِ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ في حَدِيثِهِ عَنِ المِعْرَاجِ: «فَلَمَّا فَتَحَ ـ أَيْ: فَتَحَ خَازِنُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا البَابَ لَنَا ـ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ ،عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى.

فَقَالَ: مَرْحَبَاً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِحِ».

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟

قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ـ أَيْ: أَرْوَاحُ بَنِيهِ ـ فَأَهْلُ اليَمِينِ هُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى» الحَدِيثَ.

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ وُمَودَعَةٌ هُنَاكَ في السَّمَاءِ، فَإِذَا كَمُلَ للجِسْمِ اسْتِعْدَادُهُ لِتَقَبُّلِ هَذِهِ الرُّوحِ، بِأَنْ مَضَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ في رَحِمِ أُمِّهِ ـ أَمَرَ اللهُ تعالى المَلَكَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ الرُّوحِ، فَيَنْفُخَهَا في الجَنِينِ، فَيَحْيَا حَيَاةً رُوحِيَّةً فَوْقَ الحَيَاةِ النَّامِيَةِ التي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ تَمْضِي عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ في الرَّحِمِ، فَمَا يَظْهَرُ للجَنِينِ مِنْ حَرَكَةٍ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ فَتِلْكَ حَرَكَةُ نُمُوٍّ ـ كَمَا تَتَحَرَّكُ النَّامِيَاتُ مِنَ الزُّرُوعِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الحَرَكَةُ الرُّوحِيَّةُ فَهِيَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.

وَاسْتَدَلَّ العُلَمَاءُ عَلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ الأَرْوَاحِ عَلَى الأَجْسَامِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ قَضِيَّةِ عَالَمِ الذَّرِّ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تعالى بَعْدَ أَنْ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اسْتَخْرَجَ مِنْهُ الذَّرَارِيَ التي سَيَخْلُقُهَا مِنْهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهَا الأَرْوَاحَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ ـ أَيْ: أَنْتَ رَبُّنَا ـ ﴿شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾.

جَاءَ في: (مُسْنَدِ) الإمام أحمد، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: (جَمَعَهُمُ اللهُ تعالى فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحَاً، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْ تَقُولُوا لَمْ نَعْلَمْ بِذَلِكَ.

اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي، وَلَا رَبَّ غَيْرِي، فَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئَاً.

إِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلِي يُذَكِّرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي ـ أَيْ: هَذَا العَهْدُ وَالمِيثَاقُ الذي أُخِذَ عَلَيْكُمُ الآنَ ـ وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي.

قَالُوا: شَهِدْنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا، لَا رَبَّ غَيْرُكَ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ) اهـ.

ورواه الحاكم وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدُويه وَغَيْرُهُمْ.

وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ المَعْنَى في عِدَّةِ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رواه الترمذي وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصَاً مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ.

فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟

قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ» الحَدِيثُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ الأَرْوَاحِ عَلَى الأَجْسَامِ، مَا رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ مُعَلَّقَاً.

فَالأَرْوَاحُ التي تَقُومُ بِهَا الأَجْسَادُ هِيَ جُمُوعٌ مُتَجَمِّعَةٌ، وَأَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ، وَهِيَ في عَالَمِ الأَمْرِ قَبْلَ عَالَمِ الخَلْقِ الجِسْمَانِيِّ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا في ذَلِكَ العَالَمِ إلى بَعْضِهَا ائْتَلَفَ هَهُنَا في هَذَا العَالَمِ الجِسْمَانِيِّ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا هُنَاكَ اخْتَلَفَ هَهُنَا.

قَالَ العَلَّامَةُ المُنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى حَوْلَ هَذَا الحَدِيثِ: فَالائْتِلَافُ وَالاخْتِلَافُ للقُلُوبِ وَالأَرْوَاحِ البَشَرِيَّةِ، التي هِيَ النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ، مَجْبُولَةٌ عَلَى ضَرَائِبَ مُخْتَلِفَةٍ، وَشَوَاكِلَ مُتَبَايِنَةٍ، فَكُلُّ مَا تَشَاكَلَ مِنْهَا في عَالَمِ الأَمْرِ تَعَارَفَ في عَالَمِ الخَلْقِ، وَكُلُّ مَا كَانَ في غَيْرِ ذَلِكَ في عَالَمِ الأَمْرِ تَنَاكَرَ في عَالَمِ الخَلْقِ. اهـ.

وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ الأَرْوَاحِ، مَا رواه ابْنُ مَنْدَه مَرْفُوعَاً قَالَ: «خَلَقَ اللهُ الأَرْوَاحَ قَبْلَ الأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ».

وَأَوَّلُ الأَرْوَاحِ البَشَرِيَّةِ خَلْقَاً هُوَ رُوحُ السَّيِّدِ الأَعْظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْث» رواه ابْنُ سَعْدٍ مُرْسَلَاً بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

ورواه ابْنُ نُعَيْمٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في: (تَفْسِيرِهِ) وَابْنُ لَالَ، وَالدَّيْلَمِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْث».

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ رِوَايَةَ ابْنِ سَعْدٍ، وَأَنَّ المُرَادَ مِنَ النَّاسِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُهُمْ في عَالَمِ الأَرْوَاحِ، وَخَاتَمُهُمْ في عَالَمِ الأَشْبَاحِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَقَدْ نَبَّأَهُ اللهُ تعالى في عَالَمِ الأَرْوَاحِ قَبْلَ الأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، فَبِهِ فُتِحَتِ النُّبُوَّةُ في عَالَمِ الأَرْوَاحِ، وَبِهِ خُتِمَتْ في عَالَمِ الأَشْبَاحِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ الفَاتِحُ وَهُوَ الخَاتَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

روى الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟

قَالَ: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ البَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَيْضَاً مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَعَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى كُنْتَ نَبِيَّاً؟

قَالَ: «كُنْتَ نَبِيَّاً وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» رواه الإمام أحمد، وَالبُخَارِيُّ في: (التَّارِيخِ)، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ الحَافِظُ الهَيْثَمِيُّ في رِجَالِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ: رِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ. اهـ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 17/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 14/ تشرين الأول / 2019م