162ـ يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميداً

162ـ يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميداً

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِكُلِّ مُجْتَمَعٍ رُمُوزٌ وَقَادَةٌ يُمَثِّلُونَ قِيَمَهُ، وَيُقَوُّونَ الهِمَّةَ، وَيُوَجِّهُونَ الأُمَّةَ لِتَرْتَفِعَ إلى دَرَجَاتِ الكَمَالِ.

وَرُمُوزُ وَقَادَةُ المُسْلِمِينَ هُمْ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْضَلَهُمْ هُمْ أَهْلُ السَّابِقَةِ، مَنْ مَحَّصَتْهُمُ الفِتَنُ، وَنَقَّتْهُمُ المِحَنُ، هُمُ الذينَ امْتُحِنُوا بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ، فَاسْتَرْخَصُوا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ دِينِهِمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ إلى حَيَاةِ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَا مِنْ أَجْلِ التَّسْلِيَةِ، وَلَا مِنْ أَجْلِ مِلْءِ الفَرَاغِ، وَلَا مِنْ أَجْلِ الافْتِخَارِ بِالصَّحْبِ وَالآلِ فَقَطْ.

بَلْ لِنَتَّعِظَ وَنَعْتَبِرَ وَنَتَشَبَّهَ بِهِمْ، وَلِنَتَرَسَّمَ خُطَاهُمْ، وَنَتَلَمَّسَ العِزَّةَ في طَرِيقِهِمْ، وَنَسِيرَ عَلَى هُدَاهُمْ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.

«يَا ثَابِتُ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدَاً»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَقِفْ مَعَ سَيِّدِنَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ الذي قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ، وَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ، وَحَاسَبَ نَفْسَهُ حِسَابَاً شَدِيدَاً، عِنْدَمَا قَرَأَ سَيِّدُنَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. جَاءَ مُسْرِعَاً إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَلِعَاً، فَزِعَاً، جَزِعَاً، تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُ، خَوْفَاً مِنْ هَذِهِ الآيَةِ.

روى الحاكم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلِمَ؟».

قَالَ: نَهَانَا اللهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْحَمْدَ، وَنَهَانَا عَنِ الْخُيَلَاءِ وَأَجِدُنِي أُحِبُّ الْجَمَالَ، وَنَهَانَا أَنْ نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فَوْقَ صَوْتِكَ، وَأَنَا جَهِيرُ الصَّوْتِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا ثَابِتُ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدَاً، وَتُقْتَلَ شَهِيدَاً، وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟».

قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: فَعَاشَ حَمِيدَاً، وَقُتِلَ شَهِيدَاً يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هُنَاكَ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، وَيَطْلُبُ الحَمْدَ وَالثَّنَاءَ بِمَا لَيْسَ حَقَّاً، لِيُظْهِرَ للنَّاسِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الفَضَائِلِ، أَو يَدَّعِيَ بِأَفْعَالِ خَيْرٍ لَمْ يَفْعَلْهَا، هَذَا عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ.

أَمَّا إِذَا أَحَبَّ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحَاً، وَيُرَى في عَمَلِ الصَّالِحِينَ فَلَا حَرَجَ في ذَلِكَ، إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللهِ تعالى، وَقَدْ رَغَّبَ اللهُ تعالى في ذَلِكَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً﴾.

وَهَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾.

إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَآلَ بَيْتِهِ الأَطْهَارَ عَلَى الخَشْيَةِ مِنَ اللهِ تعالى، فَصَارُوا عُلَمَاءَ بِاللهِ تعالى عَارِفِينَ بِهِ، وَكُلَّمَا عَظُمَ العِلْمُ عَظُمَتِ الخَشْيَةُ.

فَهَذَا سَيِّدُنَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يُدَقِّقُ عَلَى نَفْسِهِ تَدْقِيقَاً لَا مَثِيلَ لَهُ، روى الإمام البخاري قَالَ أَنْبَأَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسَاً فِي بَيْتِهِ، مُنَكِّسَاً رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟

فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ مُوسَى: فَرَجَعَ إِلَيْهِ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ.

فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُمْ خَيْرُ أُسْوَةٍ وَقُدْوَةٍ لَنَا، فَمَنْ أَرَادَ الكَمَالَ فَلْيَقْرَأْ سِيرَتَهُمْ للاعْتِبَارِ وَالاتِّعَاظِ وَللتَّشَبُّهِ بِهِمْ.

جَاءَ في مَوَارِدِ الظَّمْآنِ: وَكَانَتْ عَلَى ثَابِتٍ دِرْعٌ نَفِيسَةٌ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِين فَنَزَعَهَا عَنْهُ وَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ.

وَفِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ لِاسْتِشْهَادِهِ رَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لِلرَّجُلُ: أنَا ثَابِتٍ بْنُ قَيْسٍ، فَهَلْ عَرَفْتَنِي؟

فَقَالَ: إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمٌ فَتُضَيِّعَهَا ...

إِنِّي لَمَا قُتِلْتُ أَمْسٍ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَ دِرْعِي وَمَـضَى بِهَا نَحْوَ خِبَائِهِ فِي أَقْصَى الْمُعَسْكَرِ مِنَ الجِهَةِ الفُلانِيَّةِ، وَوَضَعَهَا تَحْتَ قِدْرٍ لَهُ، وَوَضَعَ فَوْقَ القِدْرِ رَحْلَاً فَائْتِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدَ وَقُلْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلى الرَّجُلِ مَنْ يَأْخُذُ الدِّرْعَ مِنْهُ فَهِيَ مَا تَزَالُ فِي مَكَانِهَا.

وَأُوصِيكَ بِأُخْرَى، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمُ نَائِمٍ فَتُضَيِّعَهَا ...

قُلْ لِخَالِدٍ: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى خَلِيفَة رَسُولِ اللهِ فِي الْمَدِينَةِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَلَى ثَابِتِ بن قَيْسٍ مِنَ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا ... وَإِنَّ فُلَانَاً وَفُلَانَاً مِنْ رَقِيقِهِ عَتِيقَان، فَلْيَقْضِ دِينِي وَلْيُحَرِّرْ غُلَامَيَّ ...

فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَأَتَى خَالِدَ بن الْوَلِيدِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ وَمَا رَأَى ...

فَبَعَثَ خَالِدٌ من يُحْضِرُ الدِّرْعَ مِنْ عِنْدِ آخِذِهَا فَوَجَدَهَا فِي مَكَانِهَا وَجَاءَ بِهَا كَمَا هِيَ.

وَلَمَّا عَادَ خَالِدٌ إِلى الْمَدِينَةِ حَدَّثَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِخَبَرِ ثَابِتِ بنِ قَيْسِ وَوَصِيَّتِهِ، فَأَجَازَ الصِّدِّيقُ وَصيَّتَهُ؛ وَمَا عُرِفَ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْده أُجِيزَتْ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سِوَاهُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا للتَّأَسِّي بِهِمْ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 24/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 21/ تشرين الثاني / 2019م