683ـ خطبة الجمعة: ذكروا أنفسكم بالجنة

683ـ خطبة الجمعة: ذكروا أنفسكم بالجنة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: أَهْلُ الإِيمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ تَزِيدُهُمُ العِبَرُ وَالعِظَاتُ، وَالمُهِمَّاتُ وَالمُلِمَّاتُ إِيمَانَاً إلى إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُم عَلَى يَقِينٍ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾. وَهُمْ عَلَى يَقِينٍ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ» رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

أَمَّا أَصْحَابُ الإِيمَانِ الضَّعِيفِ الذينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الأَسْبَابِ أَكْثَرَ مِنَ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى اللهِ تعالى، فَإِنَّ المُهِمَّاتِ وَالمُلِمَّاتِ وَغَلَاءَ الأَسْعَارِ تَزِيدُهُمْ خَوْفَاً إلى خَوْفِهِمْ، وَلَيْسَ أَنْفَعَ أَمَامَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ مِنْ قَلْبٍ مُلِئَ بِالإِيمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا يَسْتَخِفَّنَّكُمُ الذينَ لَا يُوقِنُونَ، وَلَا تَكُونُوا في ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، كُونُوا أَصْلَبَ مِنَ الأَحْدَاثِ، وَأَقْوَى مِنْ رِيَاحِ الأَزَمَاتِ، وَأَقْوَى مِنَ الأَعَاصِيرِ.

وَيَا حَسرَةً عَلَى أَصْحَابِ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ، كَمْ تَهُزُّهُمُ الأَحْدَاثُ هَزَّاً؟ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ؛ وَهَنِيئَاً لِأَصْحَابِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَبِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، وَالإِيمَانِ بِيَوْمِ القِيَامَةِ، فَهُمْ في مَدَدٍ دَائِمٍ مِنَ اللهِ تعالى، وَهُمْ عَلَى الوَعْدِ في ثِقَةٍ مُطْلَقًةٍ، وَصَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانَاً مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾.

ذَكِّرُوا أَنْفُسَكُمْ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: ذَكِّرُوا أَنْفُسَكُمْ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِنْ رَأَيْتُمُ الأَزَمَاتِ، وَرَأَيْتُمْ غَلَاءَ الأَسْعَارِ، وَرَأَيْتُمُ الظُّلْمَ وَالعُدْوَانَ، وَرَأَيْتُمْ أَثَرَةً عِوَضَاً مِنَ الإِيثَارِ.

ذَكِّرُوا أَنْفُسَكُمْ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ المُقِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً.

إِنْ ذَكَّرْنَا أَنْفُسَنَا بِذَلِكَ تَحَوَّلَتْ خَسَائِرُنَا إلى أَرْبَاحٍ، وَبَلَايَانَا إلى عَطَايَا، وَكُنَّا مِنْ أَعْقَلِ النَّاسِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ، وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟

قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْرَاً لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادَاً لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَقَرَّاً للعِبَادِ، وَلَيْسَ فِيهَا مُنْتَهَى أَمَانِينَا، فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ لَا مَقَرٍّ، دَارُ ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ، لَا تَصْفُو لِأَحَدٍ، نَعِيمُهَا مَشُوبٌ بِالمُنَغِّصَاتِ، فَكَيْفَ بِمُنَغِّصَاتِهَا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: أُمْنِيَةُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الحَقِّ أَنْ يَصِلَ إلى الدَّارِ التي يَدْعُو إِلَيْهَا مَوْلَانَا بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾. نُرِيدُ تِلْكَ الدَّارَ التي فِيهَا السَّلَامُ المُطْلَقُ لِكُلِّ مَا نُرِيدُهُ وَمَا نَتَمَنَّاهُ، نُرِيدُ تِلْكَ الدَّارَ التي تَجْمَعُنَا مَعَ خِيرَةِ خَلْقِ اللهِ تعالى مِمَّن أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً.

نُرِيدُ تِلْكَ الدَّارَ التي قَالَ اللهُ تعالى في نَعِيمِهَا: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. وَالتي قَالَ عَنْ أَهْلِهَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾. نُرِيدُ تِلْكَ الدَّارَ التي لَا يَمْرَضُ فِيهَا أَهْلُهَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَلَا هُمْ يَمُوتُونَ.

نُرِيدُ تِلْكَ الدَّارَ التي لَا يَفْنَى فِيهَا شَبَابُنَا، وَلَا تَبْلَى فِيهَا ثِيَابُنَا، نُرِيدُ تِلْكَ الدَّارَ التي فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، نَعِيمٌ دَائِمٌ، وَحَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَا مَوْتَ فِيهَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ عَاشَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُوَ يُفَكِّرُ في تِلْكَ الدَّارِ، الدَّارِ الآخِرَةِ، التي لَا وَلَنْ تَكُونَ لِمَنْ أَرَادَ عُلُوَّاً في الأَرْضِ وَفَسَادَاً، فَتَخِفُّ عَلَيْهِ المَصَائِبُ وَالرَّزَايَا، مِنْ حُرُوبٍ، وَغَلَاءِ أَسْعَارٍ، وَظُلْمٍ شَدِيدٍ، مَنْ عَاشَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُوَ عَلَى مَوْعِدٍ مِنَ اللهِ تعالى الذي لَا يُخْلَفُ، تَقَرُّ عَيْنُهُ مَهْمَا كَانَتِ النَّكَبَاتُ، وَيَفْرَحُ قَلْبُهُ فَرَحَاً لَا مَثِيلَ لَهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ تَعِيشُونَ هَذِهِ الأَزْمَةَ مُنْذُ سَنَوَاتٍ، اصْبِرُوا وَصَابِرُوا، وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ، اعْمَلُوا صَالِحَاً، وَاعْلَمُوا بِأَنَّ دُعَاءَكُمْ مُسْتَجَابٌ، وَتَذَكَّرُوا دُعَاءَ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَيْفَ أَجَابَهُ اللهُ تعالى: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَعْمَلْ صَالِحَاً لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يَغْمِسَنَا غَمْسَةً في نَعِيمِ الجَنَّةِ تُنْسِينَا شَقَاءَ الدُّنْيَا وَبُؤْسَهَا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ؛ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسَاً فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».

لِنَعْمَلْ لِتِلْكَ الدَّارِ، لَعَلَّنَا نَفُوزُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ المُخْلِصِينَ المُخْلَصِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 29/ تشرين الثاني / 2019م