157ـ عناية الله به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ صغره (4)

157ـ عناية الله به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ صغره (4)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

وَتَقَدَّمَ في بَحْثِ تَوَاضُعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ: فَأَتَاهُ إِسْرَافِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ سَمِعَ مَا ذَكَرْتَ، فَبَعَثَنِي إِلَيْكَ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ أُسَيِّرُ مَعَكَ جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدَاً، وَيَاقُوتَاً، وَذَهَبَاً، وَفِضَّةً، فَإِنْ رَضِيتَ فَعَلْتُ، فَإِنْ شِئْتَ نَبِيَّاً مَلِكَاً، وَإِنْ شِئْتَ نَبِيَّاً عَبْدَاً؟

فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَبِيَّاً عَبْدَاً» قَالَهَا ثَلَاثَاً.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُتِيتُ بِمَقَالَيدِ الدُّنْيَا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، جَاءَنِي بِهِ جِبْرِيلُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ بِرِجَالِ الصَّحِيحِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

فَقَدْ تَرَفَّعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ عَنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَأَمْوَالِهَا وَذَهَبِهَا وَفِضَّتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَرْكَنُ إلى نَعِيمِهَا، وَلَا إلى تَرَفِ عَيْشِهَا، مَعَ تَيَسُّرِ ذَلِكَ لَهُ، بَلْ كَانَتْ هِمَّتُهُ أَشْرَفَ مِنْ ذَلِكَ وَأَسْمَى، وَأَمْجَدَ وَأَعْلَى.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً (أَيْ: فِرَاشَاً وَطِيئَاً لَيِّنَاً).

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَطِيفَةٌ مَثْنِيَّةٌ، فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ صُوفٌ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟».

قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، فُلَانَةٌ الْأَنْصَارِيَّةُ، دَخَلَتْ فَرَأَتْ فِرَاشَكَ، فَذَهَبَتْ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، فَوَاللهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللهُ مَعِيَ جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ.

وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ بِلَفْظِ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَمَسِسْتُ فِرَاشَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ خَشِنٌ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ عِنْدِي فِرَاشَاً أَحْسَنَ مِنْ هَذَا وَأَلْيَنَ .. الحَدِيثَ.

فَلَيْسَ فَقْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقْرَ اضْطِرَارٍ، وَإِنَّمَا هُوَ افْتِقَارٌ وَاخْتِيَارٌ ـ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ افْتِقَارٌ إلى اللهِ تعالى وَاسْتِكَانَةٌ لَهُ، وَاخْتِيارٌ لِعَظِيمِ الأَجْرِ، وَرِفْعَةِ المَقَامِ عِنْدَ اللهِ تعالى ـ

وَلَيْسَ غِنَاهُ غِنَى جَمْعٍ وَمَنْعٍ وَاسْتِئْثَارٍ، بَلْ غِنَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَيَّاضٌ بِالعَطَاءَ وَالجُودِ وَالإِيثَارِ ... فَكَانَ يَأْتِيهِ السَّائِلُونَ، وَيَقْصِدُهُ المُحْتَاجُونَ، فَيُعْطِيهِمْ مَا يُعْطِيهِمْ، ثُمَّ يَأْتِيهِ السَّائِلُونَ، فَيُعْطِيهِمْ مَا يُعْطِيهِمْ، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ فَيُعْطِيهِمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ المَالِ، بَلْ وَلَا مِنَ الطَّعَامِ قُوتُ إِنْسَانٍ، فَيَطْوِي هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ وَهُمْ جِيَاعٌ!.

وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُمْ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ . . . الحَدِيثُ كَمَا تَقَدَّمَ في كَرَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ تعالى عَلَّمَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ النِّعَمَ السَّابِقَ ذِكْرُهَا في الآيَاتِ، بِمَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الحُقُوقِ وَالاعْتِرَافَاتِ وَالشُّكْرِ للهِ تعالى، فَقَالَ اللهُ تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث﴾.

وَفِي هَذِهِ الآيَاتِ مَعَ التي قَبْلَهَا لَفٌّ وَنَشْرٌ.

فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تُذِلَّهُ وَلَا تُحَقِّرْهُ، بَلْ أَكْرِمْهُ وَبِرَّهُ.

وَأَمَّا السَّائِلُ ـ أَيْ: سَائِلُ بُغْيَتِهِ وَحَاجَتِهِ، عِلْمَاً كَانَ أَو مَالَاً، فَلَا تَزْجُرْهُ، وَلَكِنْ أَكْرِمْهُ بِمَا سَأَلَهُ، أَو رُدَّهُ بِقَوْلٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ.

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾. لِأَنَّ في التَّحَدُّثِ بِهَا شُكْرَاً للهِ تعالى الذي أَنْعَمَ بِهَا

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ نِعَمَ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، وَيَتَحَدَّثُ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ المَقَامَاتِ، وَمَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الخُصُوصِيَّاتِ، شُكْرَاً غَيْرَ فَخْرٍ.

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ».

أَيْ: يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الشُّكْرِ لَا مِنْ بَابِ الكِبْرِ.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ».

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ، وَخَطِيبَهُمْ، وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ، غَيْرُ فَخْرٍ».

إِلَى مَا هُنَالِكَ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَهَذِهِ السُّورَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ العِنَايَاتِ الإِلَهِيَّةِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ تَوَلَّى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَتَعَهَّدَهُ في جَمِيعِ أَطْوَارِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 2/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 29/ تشرين الثاني / 2019م