55ـ الدعاء للوالدين بعد موتهما

55ـ الدعاء للوالدين بعد موتهما

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ وَاجِبَاتِ البِرِّ بِالوَالِدَيْنِ، وَمِنْ حَقِّهِمَا عَلَى وَلَدِهِمَا أَنْ يَدْعُوَ لَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا بِالرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَتَخْفِيفِ الحِسَابِ، وَالإِكْرَامِ بِالجِنَانِ، وَإِحْلَالِ رِضْوَانِ اللهِ تعالى عَلَيْهِمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ جَزَاءَ مَا فَعَلَا، وَإِلَّا فَإِنَّهُمَا قَدْ أَكْثَرَا مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ مِنْ قَبْلِ وُجُودِهِ وَبَعْدَ وُجُودِهِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلَاً كَرِيمَاً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرَاً﴾.

فَقَدْ عَطَفَ اللهُ تعالى الأَمْرَ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا عَلَى مَا سَبَقَ، وَكُلُّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الأَوْلَادِ، وَهِيَ حَقٌّ للوَالِدَيْنِ، وَيُلَاحَظُ طَلَبُ الرَّحْمَةِ لَهُمَا، وَالرَّبْطُ بَيْنَ طَلَبِ الرَّحْمَةِ، وَتَرْبِيَةِ الوَلَدِ وَهُوَ صَغِيرٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ تَعَبِ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَانَ حَالَ صِغَرِهِ، فَهَذَا أَقَلُّ مَا يَكُونُ مُكَافَأَةً وَجَزَاءً لَهُمَا، وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.

فَأَفْضَلُ مَا تَقُولُ لِوَالِدَيْكَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَنْ تَقُولَ: رَبِّ اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيَّ، رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرَاً.

كَلِمَةٌ يَسِيرَةٌ، وَرُبَّمَا أَنْ يَكُونَ الوَالِدَانِ في قَبْرَيْهِمَا بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِهَذَا الدُّعَاءِ، لِأَنَّهُما قَدْ يَكُونَا أَو أَحَدُهُمَا في كُرْبَةٍ أَو في ضِيقٍ وَهُمَا في القَبْرِ، فَيُنَفِّسُ اللهُ تعالى عَنْهُمَا وَهُمَا في القَبْرِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَاذَا يَخْسَرُ أَحَدُنَا وَهُوَ جَالِسٌ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ اغْفِرْ لي وَلِوَالِدَيَّ، رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرَاً؛ اللَّهُمَ ارْحَمْ غُرْبَتَهُمَا، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُمَا، وَآنِسْ وَحْشَتَهُمَا، وَأَعْلِ قَدْرَهُمَا، وَاجْعَلْ قَبْرَيْهِمَا رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ؟

دُعَاءُ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَالِدَيْهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّنَا يَعْلَمُ بِأَنَّ أَوَّلَ رُسُلِ اللهِ تعالى إلى البَشَرِ بَعْدَ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ سَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَبَعْدَ مَا أَيِسَ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً﴾. دَعَا لِوَالِدَيْهِ حَتَّى لَا يَشْمَلَهُمْ دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ بَعْدَ الدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنَاً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارَاً﴾.

دُعَاءُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَالِدِهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَمَّا دُعَاءُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَالِدِهِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ دُعَاءَانِ:

أَحَدُهُمَا: عِنْدَمَا دَعَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَاهُ إلى عِبَادَةِ اللهِ تعالى وَحْدَهُ، وَنَبْذِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَرَفَضَ أَبُوهُ إِجَابَتَهُ، فَأَخْبَرَهُ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْهُ سَيَدْعُوَ لَهُ، وَوَعَدَهُ بِذَلِكَ، وَالوَفَاءُ بِالوَعْدِ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، فَكَيْفَ بِالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيَّاً﴾. وَاسْتَمَرَّ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو لِأَبِيهِ ـ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُشْرِكَاً ـ وَلَمْ يُنْهَ بَعْدُ عَنْ ذَلِكَ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامَاً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾. إلى قَوْلِهِ تعالى عَلَى لِسَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾.

ثُمَّ إِنَّ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا تَيَقَّنَ بِأَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ للهِ تعالى، وَأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ، وَلَنْ يَتْرُكَ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَقَطَعَ الدُّعَاءَ لَهُ.

وَالدُّعَاءُ الثَّانِي: كَانَ عِنْدَ الانْتِهَاءِ مِنْ بِنَاءِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، وَوِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنَاً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرَاً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اخْتِلَافُ السِّيَاقِ بَيْنَ الدُّعَاءَيْنِ؛ فَالأَوَّلُ: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا وَعَدَهُ بِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.

بِخِلَافِ الدُّعَاءِ الثَّانِي المَذْكُورِ في سُورَةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَيْثُ جَاءَ في أَمَلٍ وَسِيَاقِ القَبُولِ وَالإِجَابَةِ: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾.

فَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا طَلَبَ الوَلَدَ، فَأَعْطَاهُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَأَعْطَاهُ يَعْقُوبَ نَافِلَةً.

لِذَلِكَ طَلَبَ هُنَا ـ في هَذِهِ الآيَةِ ـ طَلَبَيْنِ؛ مُقَدِّمَاً لَهُمَا بِحَمْدِ اللهِ تعالى عَلَى مَا مَنَحَهُ، وَأَنَّ اللهَ تعالى يَقْبَلُ الدُّعَاءَ وَيَسْمَعُهُ:

الأَوَّلُ: جَعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمَعَهُ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِ ـ وَهُمُ المُسْلِمُونَ ـ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَيَكُونُونَ ظَالِمِينَ.

وَالثَّانِي: هُوَ المَغْفِرَةُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَللمُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَكَمَا اسْتَجَبْتَ لِي في إِعْطَائِي إِسْحَاقَ، اسْتَجِبْ لِي في طَلَبَيَّ هَذَيْنِ. وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.

الفَارِقُ بَيْنَ الحَالَتَيْنِ: التَّبَرُّؤُ في الأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ كَافِرَاً، أَمَّا الدُّعَاءُ بِالمَغْفِرَةِ في الثَّانِي لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَللمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِيَوْمِ الحِسَابِ.

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 12/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 9/ كانون الأول / 2019م