159ـ سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام

159ـ سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: سَفَرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الشَّامِ:

لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إلى الشَّامِ، حَتَّى بَلَغَ بُصْرَى ـ مَدِينَةً في حَوْرَانَ ـ فَرَآهُ بَحِيرَا الرَّاهِبُ، وَكَانَ عَالِمَاً بِالنَّصْرَانِيَّةِ، فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِصِفَاتِهِ التي وَافَقَتْ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ السَّابِقَةُ، فَقَالَ بَحِيرَا: هَذَا سَيِّدُ المُرْسَلِينَ، هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا الحَدِيثَ الوَارِدَ في هَذِهِ السَّفْرَةِ، في بَحْثِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ المُتَقَدِّمِ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ.

وَعِنْد ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ بَحِيرَا قَالَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلَامُ، أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اللَّاتِ وَالعُزَّى إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي ـ أَيْ: إِلَّا أَخْبَرْتَنِي ـ عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْأَلْنِي بِهِمَا شَيْئَاً، فَوَاللهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئَاً قَطُّ بُغْضَهُمَا».

فَقَالَ لَهُ بَحِيرَا: فَبِاللهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ.

فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ».

فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ وَنَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ، وَيُخْبِرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَا مِنْ صِفَتِهِ.

قَالَ في الشِّفَا: وَإِنَّمَا سَأَلَهُ بِحَقِّ اللَّاتِ وَالعُزَّى اخْتِبَارَاً. اهـ.

أَيْ لِتَتَبَيَّنَ لَهُ صِفَاتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَذْكُورَةُ في الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا بُغْضُهُ للأَوْثَانِ وَالأَصْنَامِ.

ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ أَيْضَاً إلى الشَّامِ مَرَّةً ثَانِيَةً، في تِجَارَةٍ للسَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، وَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.

وَذَلِكَ ـ كَمَا قَالَ الوَاقِدِيُّ وَابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُمَا ـ أَنَّ السَّيِّدَةَ خَدِيجَةَ كَانَتْ تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ كَثِيرٍ، وَتِجَارَةٍ تَبْعَثُ بِهَا إلى الشَّامِ، فَيَكُونُ عِيرُهَا في الكَمِيَّةِ وَالعَدَدِ ـ كَعَامَّةِ عِيرِ قُرَيْشٍ.

وَكَانَتْ تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ وَتَدْفَعُ إِلَيْهِمْ مُضَارَبَةً، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمَاً تُجَّارَاً، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ تَاجِرَاً فَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ.

فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ أَخِي! هَذِهِ عِيرُ قَوْمِكَ قَدْ حَضَرَ خُرُوجُهَا إلى الشَّامِ، وَخَدِيجَةُ تَبْعَثُ رِجَالَاً مِنْ قَوْمِكَ يَتَّجِرُونَ في مَالِهَا وَيُصِيبُونَ مَنَافِعَ، فَلَوْ جِئْتَهَا لَفَضَّلَتْكَ عَلَى غَيْرِكَ، لِمَا بَلَغَهَا عَنْكَ مِنْ طَهَارَتِكَ، وَإِنْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَأْتِيَ الشَّامَ، وَأَخَافُ عَلَيْكَ مِنْ يَهُودِهَا، وَلَكِنْ لَا نَجِدُ مِنْ ذَلِكَ بُدَّاً.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّهَا تُرْسِلُ إِلَيَّ في ذَلِكَ» وَهَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ عِزَّةِ نَفْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ الأَبِيَّةِ.

فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تُوَلِّيَ غَيْرَكَ!.

فَبَلَغَ خَدِيجَةَ مَا كَانَ مِنْ مُحَاوَرَةِ عَمِّهِ لَهُ، وَكَانَ بَلَغَهَا قَبْلَ ذَاكَ صِدْقُ حَدِيثِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعِظَمُ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمُ أَخْلَاقِهِ، فَقَالَتْ: مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذَا.

وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: دَعَانِي إلى البِعْثَةِ إِلَيْكَ، مَا بَلَغَنِي مِنْ صِدْقِ حَدِيثِكَ، وَعِظَمِ أَمَانَتِكَ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِكَ، وَأَنَا أُعْطِيكَ ضِعْفَ مَا أُعْطِي رِجَالَاً مِنْ قَوْمِكَ؛ فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ لِعَمِّهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ.

فَخَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ غُلَامُ ـ أَيْ: مَمْلُوكُ ـ خَدِيجَةَ، وَسَارَ حَتَّى بَلَغَ بُصْرَى، فَنَزَلَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ في سُوقِ بُصْرَى، قَرِيبَاً مِنْ صَوْمَعَةِ نَسْطُورَا الرَّاهِبِ، فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إلى مَيْسَرَةَ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ.

فَقَالَ نَسْطُورَا: يَا مَيْسَرَةُ، مَنْ هَذَا الذي تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟

فَقَالَ: رَجُلٌ مِن قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الحَرَمِ.

فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا نَبِيٌّ ـ وَفِي رِوَايَةٍ: بَعْدَ عِيسَى ـ.

ثُمَّ قَالَ لِمَيْسَرَةَ: أَفِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟

فَقَالَ مَيْسَرَةُ: نَعَمْ.

فَقَالَ: هُوَ هُوَ، وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، وَيَا لَيْتَ أَنِّي أُدْرِكُهُ حِينَ يُؤْمَرُ بِالخُرُوجِ؛ فَوَعَى ذَلِكَ مَيْسَرَةُ.

ثُمَّ حَضَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُوقَ بُصْرَى، فَبَاعَ سِلْعَتَهُ التي خَرَجَ بِهَا وَاشْتَرَى، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ اخْتِلَافٌ في سِلْعَتِهِ.

فَقَالَ الرَّجُلُ: احْلِفْ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ».

فَقَالَ الرَّجُلُ: القَوْلُ قَوْلُكَ.

ثُمَّ قَالَ لِمَيْسَرَةَ ـ وَخَلَا بِهِ ـ: هَذَا نَبِيٌّ ـ إِنَّهُ لَهُوَ الذي تَجِدُهُ أَحْبَارُنَا مَنْعُوتَاً في كُتُبِهِمْ ـ فَوَعَى ذَلِكَ مَيْسَرَةُ.

وَانْصَرَفَ أَهْلُ العِيرِ جَمِيعَاً.

وَكَانَ مَيْسَرَةُ يَرَى في الهَاجِرَةِ ـ الظَّهِيرَةِ ـ مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ في الشَّمْسِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَلَمَّا رَجَعُوا إلى مَكَّةَ في سَاعَةِ الظَّهِيرَةِ وَخَدِيجَةُ في عِلِّيَّةٍ ـ غُرْفَةٍ عَالِيَةٍ ـ لَهَا، رَأَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى البَعِيرِ، وَمَلَكَانِ يُظِلَّانِ عَلَيْهِ، فَأَرَتْهُ نِسَاءَهَا، فَعَجِبْنَ لِذَلِكَ.

وَدَخَلَ عَلَيْهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهَا بِمَا رَبِحُوا، فَسُرَّتْ.

فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا مَيْسَرَةُ، أَخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَتْ.

فَقَالَ مَيْسَرَةُ: قَدْ رَأَيْتُ هَذَا مُنْذُ خُرُوجِنَا مِنَ الشَّامِ، وَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ نَسْطُورَا، وَقَوْلِ الرَّجُلِ الذي خَالَفَهُ في البَيْعِ.

وَقَدِمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِتِجَارَتِهَا فَرَبِحَتْ ضِعْفَ مَا كَانَتْ تَرْبَحُ، وَأَضْعَفَتْ لَهُ مَا كَانَتْ سَمَّتْهُ لَهُ. انْظُرْ المَوَاهِبَ وَشَرْحَهُ، مَعْزُوَّاً إلى أَبِي نُعَيْمٍ وَالوَاقِدِيِّ وَابْنِ السَّكَنِ، وَانْظُرْ سِيرَةَ ابْنِ هِشَامٍ وَالرَّوْضَ الأُنُفَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 12/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 9/ كانون الأول / 2019م