50ـ الحاجة إلى الصبر

50ـ الحاجة إلى الصبر

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الصَّبْرُ مَقَامٌ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَمَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، فَمَنْ صَبَرَ عَنِ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ في دَرَجَةِ التَّائِبِينَ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَاتِ فَهُوَ في دَرَجَةِ الشَّاكِرِينَ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى مَا يَصْنَعُ بِهِ مَوْلَاهُ فَهُوَ في دَرَجَةِ الصِّدِّيقِينَ.

وَمَا أَحْوَجَ العَبْدَ إلى الصَّبْرِ عَنِ المَعَاصِي التي صَارَتْ مَأْلُوفَةً عِنْدَ الكَثِيرِ مِنَ الخَلْقِ، وَالتي قَدْ تُطِيحُ بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ مِنَ العِبَادَاتِ؟ فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى الصَّبْرِ عَنْ مَعَاصِي اللِّسَانِ مِنَ الغِيبَةِ وَالكَذِبِ وَالمِرَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى النَّفْسِ تَعْرِيضَاً وَتَصْرِيحَاً، وَأَنْوَاعِ المُزَاحِ المُؤْذِي للقُلُوبِ، وَضُرُوبِ الكَلِمَاتِ التي يُقْصَدُ بِهَا الإِزْرَاءُ وَالاسْتِحْقَارُ، وَذِكْرِ المَوْتَى وَالقَدْحِ في عُلُومِهِمْ وَسَيْرِهِمْ وَمَنَاصِبِهِمْ؟

فَإِنَّ ذَلِكَ في ظَاهِرِهِ غِيبَةٌ وَفِي بَاطِنِهِ ثَنَاءٌ عَلَى النَّفْسِ، وَقِسْ عَلَى مَعَاصِي اللِّسَانِ مَعَاصِيَ سَائِرِ الجَوَارِحِ، فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى الصَّبْرِ عَنْهَا، وَخَاصَّةً أَنَّ رَبَّنَا جَلَّ شَأْنُهُ يَقُولُ: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.

الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنْ شِعَارِ المُؤْمِنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَكَذَلِكَ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَهِيَ شِعَارُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهَا صَبْرٌ عَلَى الشَّدَائِدِ، فَالطَّاعَةُ تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ قَبْلَهَا، وَذَلِكَ في تَحْرِيرِ النِّيَّةِ وَالإِخْلَاصِ للهِ تعالى.

وَتَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ عِنْدَ أَدَائِهَا، كَيْ لَا يَغْفُلَ العَبْدُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَثْنَاءَ عَمَلِهِ وَلَا يَتَكَاسَلَ عَنْ تَحْقِيقِ آدَابِهَا وَسُنَنِهَا، وَلَا يَفْتُرَ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ مِنْهَا، يَقُولُ تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾. وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. وَنَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ بَعْدَ الفَرَاغِ مِنْهَا، حَتَّى لَا يَدْخُلَ عَلَيْنَا عُجْبٌ وَرِيَاءٌ، قَالَ تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾.

قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: الاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ حَتَّى لَا يَحْبَطَ العَمَلُ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يُدْخِلُ عَلَيْكَ العُجْبَ وَالرِّيَاءَ وَالغُرُورَ وَيُنْسِيكَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله﴾. كَمَا أَنَّهَا قَبْلَ التِّلَاوَةِ حَتَّى لَا يَصْرِفَكَ الشَّيْطَانُ عَنْهَا، فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ أَدَائِهَا قَدْ يُبْطِلُهَا: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾.

الصَّبْرُ عَلَى المَصَائِبِ سِرُّ سَعَادَةِ المُؤْمِنِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَمَّا الصَّبْرُ عَلَى المَصَائِبِ فَمَطْلُوبٌ مِنَّا شَرْعَاً، وَفِيهَا سِرُّ سَعَادَتِنَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَعُدُّ إِيمَانَ الرَّجُلِ إيماناً إِذَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الأَذَى. اهـ.

قَالَ تعالى: ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾.

وَقَالَ جَلَّ في عُلَاهُ: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذَىً كَثِيرَاً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.

وَقَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَالَاً، فَقَالَ بَعْضُ الأَعْرَابِ مِمَّنْ دَخَلُوا في الإِسْلَامِ حَدِيثَاً: هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ تعالى، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، ثُمَّ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» متفق عليه.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الصَّبْرِ بِأَنْوَاعِهِ: صَبْرٌ عَنِ المَعْصِيَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى أَذَى الخَلْقِ.

لِأَنَّ عَوَاقِبَ الصَّبْرِ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ، خُذُوا عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ قَوْلَهُ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلَاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدَاً * وَنَرَاهُ قَرِيبَاً﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَكْفِينَا شَرَفَاً أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ أُسْوَتَنَا الحَسَنَةَ في ذَلِكَ، حَيْثُ خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ مَوْلَانَا: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرَاً جَمِيلَاً﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُون﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمَاً أَوْ كَفُورَاً﴾.

وَحَيْثُ وَجَّهَهُ مَوْلَانَا إلى التَّأَسِّي بِمَنْ سَبَقَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّاب﴾. وَقَالَ لَهُ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾. وَحَيْثُ وَعَدَهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم﴾. وَحَيْثُ أَعْطَاهُ دَوَاءً لِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَلْبِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوب﴾. وَقَالَ لَهُ: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾. وَقَالَ لَهُ: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾.

فَهَلْ مِنْ صَابِرٍ عَلَى الطَّاعَةِ يَا شَبَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ؟

وَهَلْ مِنْ صَابِرٍ عَنِ المَعْصِيَةِ يَا شَبَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ؟

وَهَلْ مِنْ صَابِرٍ عَلَى المَصَائِبِ يَا شَبَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ؟

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَالصَّابِرِينَ عَلَى الابْتِلَاءِ، وَالْطُفْ بِنَا فِيمَا جَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 7/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 4/ كانون الأول / 2019م