11ـ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾

11ـ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى﴾.

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُخْبِرُ عَنْ وَاقِعَةٍ أَلِيمَةٍ حَصَلَتْ، رواها الإمام مسلم وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ ـ أَي يَسْجُدُ ـ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟

قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ.

فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.

قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ.

قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.

قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟

فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقَاً مِنْ نَارٍ وَهَوْلَاً وَأَجْنِحَةً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً».

قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ ـ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ـ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ ـ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾.

وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَهَاهُ، فَتَهَدَّدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَتُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيَاً.

فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ دَعَا نَادِيَهُ، لَأَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ.

النَاسُ تُجَاهَ الرِّسَالَةِ الرَّبَّانِيَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ تعالى عَلَى خَلْقِهِ بِبِعْثَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَهُمْ آيَاتِ اللهِ تعالى، وَيُزَكِّيَهُمْ، وَيُعَلِّمَهُمُ الحِكْمَةَ، وَمَا يُرِيدُ اللهُ تعالى مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى الخَلْقِ أَنْ يَسْتَجِيبُوا للهِ وَللرَّسُولِ إِذَا دَعَاهُمْ لِمَا يُحْيِيهِمْ، وَلَكِنْ كَانُوا عَلَى أَصْنَافٍ أَرْبَعَةٍ:

الصِّنْفُ الأَوَّلُ وَهُوَ أَرْفَعُهُمْ: هُمُ الذينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعُوهُ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، وَحَمَلُوا هَمَّ الرِّسَالَةِ لِيُبَلِّغُوهَا لِغَيْرِهِمْ، وَنَالُوا شَرَفَ الشَّهَادَةِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» رواه الإمام مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بَعْدَ أَنْ نَالُوا شَرَفَ الشَّهَادَةِ مِنَ اللهِ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلَاً﴾.

الصِّنْفُ الثَّانِي: وَهُمُ الذينَ نَالُوا شَرَفَ الاسْتِجَابَةِ للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّبَعُوهُ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، وَلَكِنَّهُمْ قَصَرُوا الخَيْرَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَمْ يَهْتَمُّوا بِدَعْوَةِ الآخَرِينَ إلى مَا أَكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِهِ مِنْ إِيمَانٍ بِاللهِ تعالى وَإِيمَانٍ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَنَالُوا شَرَفَ التَّبْلِيغِ الذي حَازَهُ الصِّنْفُ الأَوَّلُ مِنَ النَّاسِ.

الصِّنْفُ الثَّالِثُ: وَهُمُ الذينَ حُرِمُوا نِعْمَةَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَم يُؤْمِنوا باللهِ تعالى، وَلَم يُؤْمِنوا بِرَسُولَهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَم يُؤْمِنوا بالنُّورِ الذي جَاءَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُمْ مَا حَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَمَا حَارَبُوا مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا ضَالِّينَ فَقَطْ وَتَحَمَّلُوا وِزْرَهُمْ لَا وِزْرَ غَيْرِهِمْ.

الصِّنْفُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَخَسُّ الأَصْنَافِ وَشَرُّهُمْ، حَيْثُ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَحَارَبُوا مَنِ اتَّبَعَ النُّورَ الذي أُنْزِلَ، وَدَعَوْا إلى الضَّلَالَةِ وَالانْحِرَافِ، وَتَكْذِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالنُّورِ الذي جَاءَ بِهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا الصِّنْفُ الأَخِيرُ مِنَ النَّاسِ، وَالذي تَجَسَّدَ في فِرْعَوْنِ هَذِهِ الأُمَّةِ، الضَّالِّ المُضِلِّ أَبِي جَهْلٍ، قَالَ تعالى في حَقِّهِ: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى﴾. اسْتِفْهَامٌ مُوَجَّهٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ ذَرَّةُ عَقْلٍ وَفَهْمٍ، أَرَأَيْتَ يَا صَاحِبَ العَقْلِ هَذَا الرَّجُلَ التَّافِهَ الحَقِيرَ وَأَمْثَالَهُ؟ أَرَأَيْتَ صَاحِبَ هَذَا السُّلُوكِ؟ أَلَا تُنْكِرُ عَلَيْهِ أَشَدَّ الإِنْكَارِ؟ إِنَّهُ كَفَرَ وَكَذَّبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَرَفَضَ دَعْوَةَ اللهِ تعالى، ثُمَّ اجْتَرَأَ عَلَى نَهْيِ مَنْ أَرَادَ عِبَادَةَ اللهِ تعالى، وَأَرَادَ الوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيُصَلِّي، مَعَ العِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ بِالأَذَى.

أَلَا يُثِيرُ هَذَا الأَمْرُ العَجَبَ وَالاسْتِغْرَابَ وَالاسْتِنْكَارَ؟ ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلَاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ﴾. أَتَقْتُلُونَ رَجُلَاً أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُصَلِّيَاً مُتَحَقِّقَاً بِالعُبُودِيَّةِ لَهُ؟ أَتَقْتُلُونَ رَجُلَاً مَا أَذَى أَحَدَاً مِنَ الخَلْقِ؟ إِنَّهُ لَأَمْرٌ عَجِيبٌ يُوجِبُ الإِنْكَارَ وَالاسْتِغْرَابَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَبْدَعَ عَرْضَ هَذَا الصِّنْفِ الأَخِيرِ مِنَ النَّاسِ، الذي هُوَ شَرُّ النَّاسِ عَلَى الإِطْلَاقِ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى﴾؟

هَذِهِ العِبَارَةُ تَتَضَمَّنُ أَنَّ حُرِّيَّةَ الاعْتِقَادِ وَالعِبَادَةِ لَدَى جَمِيعِ العُقَلَاءِ مِنَ النَّاسِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُصَانَةً في المُجْتَمَعِ البَشَرِيِّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عُرْضَةً للإِكْرَاهِ فِعْلَاً وَلَا تَرْكَاً.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ أَكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ، وَبِنِعْمَةِ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ نَكُونَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». اللَّهُمَّ آمين.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 15/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 12/ كانون الأول / 2019م