56ـ واجب الأولاد تجاه الوالدين

56ـ واجب الأولاد تجاه الوالدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ كُلَّ حَقٍّ للوَالِدَيْنِ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الأَوْلَادِ،وَالوَاجِبَاتُ عَلَى الأَوْلَادِ كَثِيرَةٌ، أَذْكُرُ أَهَمَّهَا، لِيَعْرِفَهَا الأَبْنَاءُ، وَلِيَعْرِفُوا كَيْفَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ آبَائِهِمْ، فَإِذَا عَرَفَ الوَلَدُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، وَقَامَ بِذَلِكَ حَقَّ القِيَامِ، نَالَ رِضَاهُمَا، وَالدُّعَاءَ مِنْهُمَا، وَسَعِدَ بِتَحْقِيقِ رَغَبَاتِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى؛ مِنْ هَذِهِ الوَاجِبَاتِ:

الانْتِسَابُ إِلَيْهِمَا:

إِنَّ مِنْ وَاجِبِ الوَلَدِ الانْتِسَابَ إلى وَالِدَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرَاً أَو أُنْثَى، وَلَا يَصِحُّ بِحَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْ نَسَبِهِ، أَو يُغَيِّرَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَإِنِ انْتَفَى مِنْهُ أَو بَدَّلَهُ إلى غَيْرِهِ فَذَاكَ ذَنْبُهُ عَظِيمٌ، وَكُفْرٌ ذَمِيمٌ؛ وَالنُّصُوصُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً﴾.

لَقَدْ كَانَ التَّبَنِّي قَائِمَاً في الجَاهِلِيَّةِ وَفي صَدْرِ الإِسْلَامِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَبَنِّي النَّبِيِّ المُصْطَفَى الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ.

فَفِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ مَطْلَبٌ: أَنْ يُدْعَوْنَ وَيُنْسَبُونَ إلى آبَائِهِمُ الحَقِيقِيِّينَ، لِأَنَّهُ أَعْدَلُ وَأَصْدَقُ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَأَصْوَبُ مِنَ ادِّعَائِهِمْ أَبْنَاءً لِغَيْرِ آبَائِهِمْ الذينَ هُم مِن أَصْلَابِهِم، فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ آبَاءَهُمُ الحَقِيقِيِّينَ لِتَنْسِبُوهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ ـ إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ـ وَإِنْ وَقَعَ مِنْكُمْ خَطَأٌ لَمْ تَتَعَمَّدُوهُ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ وَلَا وِزْرٌ، إِنَّمَا الإِثْمُ وَالحَرَجُ فِيمَا تَعَمَّدْتُمْ فِعْلَهُ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وَقَدْ نَفَى اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى في الآيَةِ الأُولَى الادِّعَاءَيْنِ، ادِّعَاءَ الزَّوْجَةِ أُمَّاً ـ وَهُوَ الظِّهَارُ ـ وَادِّعَاءَ الوَلَدِ الدَّعِيِّ وَلَدَاً حَقِيقِيَّاً ـ وَهُوَ التَّبَنِّي المَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ.

وَلِهَذَا نَفَى اللهُ تعالى أُبُوَّةَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمَاً﴾.

روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ القُرْآنُ: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ﴾.

وَقَدْ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الأَبْنَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى في الخَلْوَةِ بِالمَحَارِمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَلِهَذَا لَمَّا نُسِخَ هَذَا الحُكْمُ، أَبَاحَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى زَوْجَةَ الدَّعِيِّ، وَتَزَوَّجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مُطَلَّقَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرَاً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرَاً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولَاً﴾.

وَلِهَذَا جَاءَ التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ مِنَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّغْبَةِ عَنِ الآبَاءِ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ».

وفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ».

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا ليْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلَاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ».

وفي رواية البُخَارِيُّ: «وَمَنِ ادَّعَى قَوْمَاً لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

فَالأَصْلُ: الانْتِسَابُ إلى الأَبِ، وَلَا يَجُوزُ التَّخَلِّي عَنْهُ إلى نَسَبٍ آخَرَ ـ كَمَا هُوَ الحَالُ في بَعْضِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ ـ تَمَشِّيَاً مَعَ العَادَاتِ الغَرْبِيَّةِ، بِانْتِسَابِ المَرْأَةِ إلى نَسَبِ زَوْجِهَا بَعْدَ زَوَاجِهَا، وَتَرْكِهَا الِانْتِسَابَ لِأَهْلِهَا، فَهَذَا حَرَامٌ، كَمَا هُوَ مَنْطُوقُ الأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ، وَالآيَةِ القُرْآنِيَّةِ السَّابِقَةِ.

فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا زَيْدُ بْنَ ثَابِتٍ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ أَنْ: لَا تَنْتَفُوا مِنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كفرٌ بِكُمْ.

قَالَ: بَلَى. رواه أبو إسحاق بن راهويه وأبو داود الطَّيَالِسِيُّ. وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ عَلَى الوَلَدِ الانْتِسَابُ إلى وَالِدَيْهِ، مَهْمَا كَانَتْ مَرْتَبَتُهُمَا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَهْمَا كَانَتْ مَرْتَبَةُ الوَلَدِ، وَإِلَّا فَالتَّبَرُّؤُ مِنَ الوَالِدَيْنِ كُفْرٌ بِنِعْمَةِ اللهِ تعالى عَلَى الوَلَدِ، وَإِنِ اسْتَحَلَّ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى. وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 25/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 22/ كانون الأول / 2019م