17ـ عالم البرزخ (2)

17ـ عالم البرزخ (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

وَقَدْ جَاءَتِ التَّوْفِيَةُ في القُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

تَوْفِيَةُ النَّوْمِ: قَالَ تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ الآيَةَ.

وَبِهَذِهِ التَّوْفِيَةِ تَتَوَجَّهُ الرُّوحُ لِعَالَمٍ آخَرَ، مَعَ بَقَائِهَا في الجِسْمِ، فَالحَيَاةُ ثَابِتَةٌ في الجِسْمِ لَمْ تُفَارِقْهُ، وَلَكِنَّهَا تَوَجَّهَتْ إلى عَالَمٍ بَرْزَخِيٍّ: بَيْنَ عَالَمِ اليَقَظَةِ وَبَيْنَ عَالَمِ الأَرْوَاحِ.

وَتَوْفِيَةُ المَوْتِ: قَالَ تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ الآيَةَ.

وَبِهَذِهِ التَّوْفِيَةِ تُقْبَضُ الرُّوحُ مِنَ الجِسْمِ، فَلَا حَيَاةَ فِيهِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، فَتَلْتَحِقُ الرُّوحُ بِعَالَمِ البَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وَتَوْفِيَةٌ فِيهَا قَبْضُ الرُّوحِ وَالجِسْمِ مَعَاً، وَالآخِذُ بِهِمَا إلى عَالَمٍ آخَرَ، قَالَ تعالى في عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ.

فَقَوْلُهُ تعالى لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أَيْ: قَابِضُكَ إِلَيَّ جِسْمَاً وَرُوحَاً ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أَيْ: رَافِعُ جِسْمِكَ وَرُوحِكَ إِلَيَّ لِأَحْفَظَكَ مِمَّا هَمَّ بِهِ أَعْدَاؤُكَ، وَهُوَ القَتْلُ.

وَلَا يَصِحُّ أَنْ تُفَسَّرَ التَّوْفِيَةُ هُنَا بِالمَوْتِ الذي هُوَ قَبْضُ الرُّوحِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ المَعْنَى حِينَئِذٍ إِنِّي مُتَوَفِّي رُوحِكَ إِلَيَّ، وَرَافِعُ رُوحِكَ إِلَيَّ، في حِينِ أَنَّ رُوحَ كُلَّ مُؤْمِنٍ بَعْدَ مَوْتِهِ تُرْفَعُ إلى اللهِ تعالى، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ خُصُوصِيَّةً لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ التَّوْفِيَةِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالمَوْتِ، يَتَنَافَى حِينَئِذٍ مَعَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾. وَهَذَا ـ وَهُوَ إِيمَانُ أَهْلِ الكِتَابِ كُلُّهُمْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لَمْ يَحْصُلْ، فَمَوْتُهُ لَمْ يَحْصُلْ إِذَاً، لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الكِتَابِ؛ حَتَّى اليَهُودُ إِيمَانَاً حَقَّاً، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ يَقْتُلُهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ، وَلَكِنَّهُ سَوْفَ يَقَعُ بَعْدُ، حَتَّى يَنْزِلَ في آخِرِ الزَّمَانِ قُرْبَ السَّاعَةِ.

كَمَا أَنَّ تَفْسِيرَ التَّوْفِيَةِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالمَوْتِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَتَنَافَى مَعَ الآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ الآيَةَ.

فَمَكْرُ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى بِالذينَ قَصَدُوا قَتْلَهُ، هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَدَّ مَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَنْجَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَبَضَهُ جِسْمَاً وَرُوحَاً، وَرَفَعَهُ اللهُ حِفْظَاً مِنْهُمْ وَأَلْقَى الشَّبَهَ عَلَى الذي حَاوَلَ قَتْلَهُ، فَقَتَلُوا الشَّبِيهَ ـ وَهَذَا مِنْ بَابِ المَكْرِ بِهِمْ، وَرَدَّ مَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ.

عَلَى أَنَّنَا لَو تَتَبَّعْنَا كَيْفَ مَكَرَ اللهُ تعالى بِالمَاكِرِينَ بِرُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، لَرَأَيْنَا أَنَّ اللهَ تعالى قَدْ حَفِظَ رُسُلَهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَرَدَّ مَكْرَ أَعْدَائِهِمْ، وَلَمْ يُمِتْ رُسُلَهُ بَلْ سَلَّمَهُمْ وَنَجَّاهُمْ.

قَالَ تعالى في الذينَ مَكَرُوا بِرَسُولِ اللهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرَاً وَمَكَرْنَا مَكْرَاً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الآيَةَ.

وَقَالَ تعالى في كُفَّارِ قُرَيْشٍ، الذينَ مَكَرُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الهِجْرَةِ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ﴾.

وَكَانَ مَكْرُ اللهِ تعالى بِهِمْ أَنْ حَفِظَ رَسُولَهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ صُفُوفِهِمْ سَالِمَاً آمِنَاً؛ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَهَكَذَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَقَدْ حَفِظَهُ اللهُ تعالى، وَمَكَرَ بِالمَاكِرِينَ بِهِ، وَرَفَعَهُ إلى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، حَتَّى يَحِينَ نُزُولُهُ قُبَيْلَ السَّاعَةِ.

قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ الآيَةَ.

فَنُزُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الكُبْرَى، كَمَا جَاءَ في الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ المُتَوَاتِرَةِ، وَلَيْسَ هُنَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 22/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 19/ كانون الأول / 2019م