164ـ ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾

164ـ ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأَصْلُ الأَصِيلُ في الإِنْسَانِ السَّوِيِّ خُلُقُ المَحَبَّةِ لَا خُلُقُ الكَرَاهِيَةِ، فَالمُؤْمِنُ صَاحِبُ قَلْبٍ مُشْرِقٍ دَائِمَاً، مُنْفَتِحٍ لِكُلِّ عِبَادِ اللهِ تعالى، يُرِيدُ الخَيْرَ لِجَمِيعِ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَإِذَا أَبْغَضَ أَو كَرِهَ فَإِنَّمَا يُبْغِضُ وَيَكْرَهُ الصِّفَةَ، يَكْرَهُ الرَّذِيلَةَ وَالشَّرَّ وَالفَسَادَ وَالبَاطِلَ، لِأَنَّ حُبَّهُ للحَقِّ وَالصَّلَاحِ وَالخَيْرِ وَالفَضِيلَةِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكْرَهَ وَيُبْغِضَ أَضْدَادَهَا.

وَإِذَا وَجَدَ المُؤْمِنُ أَحَدَاً مِنْ خَلْقِ اللهِ تعالى قَدِ الْتَزَمَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةَ، فَإِنَّ حُبَّهُ لِذَاتِ أَخِيهِ يَدْفَعُهُ إلى هِدَايَتِهِ حَتَّى يُنْقِذَهُ مِنْ ذُلِّ هَذِهِ الصِّفَاتِ في الدُّنْيَا، وَيُخَلِّصَهُ مِنْ مَآلِهَا في الآخِرَةِ، لِأَنَّ مُتَّبِعَ الرَّذِيلَةِ وَالشَّرِّ وَالفَسَادِ وَالبَاطِلِ ذَلِيلٌ في الدُّنْيَا، مُعَذَّبٌ في الآخِرَةِ.

فَالمُؤْمِنُ يُحِبُّ ذَوَاتِ الآخَرِينَ، وَيَكْرَهُ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةَ مِنْهُمْ، فَإِذَا رَآهُمْ مُلْتَزِمِينَ تِلْكَ الصِّفَاتِ أَسْرَعَ إِلَيْهِمْ لِإِنْقَاذِهِمْ، وَقَالَ مُخَاطِبَاً لَهُمْ كَمَا خَاطَبَ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ إِخْوَانَهُ مِنْ أَصْحَابِ قَرْيَتِهِ، كَمَا حَدَّثَنَا مَوْلَانَا عَنْهُ في سُورَةِ يس: ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين * اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرَاً وَهُم مُّهْتَدُون * وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً وَلَا يُنقِذُون * إِنِّي إِذَاً لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِين * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون﴾.

جَاءَ بِقَلْبٍ مُنْفَتِحٍ بِقَلْبِ مُحِبٍّ بِعَقَلِ رَاجِحٍ، لَا يَعْرِفُ حِقْدَاً وَلَا غِلَّاً عَلَى الذَّاتِ، بَلْ عَلَى الصِّفَاتِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِشْهَادِهِ عِنْدَمَا قَتَلَهُ أَصْحَابُ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ، الذينَ الْتَزَمُوا تِلْكَ الصِّفَاتِ وَدَافَعُوا عَنْهَا مِنْ خِلَالِ حُبٍّ أَرْعَنٍ لَا يَسْتَنِدُ إلى مَبْدَأِ الحَقِّ وَالفَضِيلَةِ وَالأَخْلَاقِ، فَقَالَ هَذَا المُؤْمِنُ بَعْدَ اسْتِشْهَادِهِ:  ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون *  بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين﴾. قَبْلَ قَتْلِهِ قَالَ: ﴿يَا قَوْمِ﴾ وَبَعْدَ اسْتِشْهَادِهِ قَالَ: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي﴾. مَا أَلْطَفَهَا مِنْ عِبَارَةٍ؟

لَخِنْزِيرٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَرْقَى دَرَجَاتِ الإِيمَانِ حُبُّ الخَيْرِ للآخَرِينَ، وَإِنَّ أَبْغَضَ الصِّفَاتِ المُخَالِفَةِ مَطْلُوبٌ مِنَّا شَرْعَاً، فَمَنْ أَحَبَّ ذَوَاتِ الآخَرِينَ، وَكَرِهَ الصِّفَاتِ المُخَالِفَةِ، يَفْرَحُ فَرَحَاً عَظِيمَاً بِتَوْبَةِ العَبْدِ مِنَ الصِّفَاتِ النَّاقِصَةِ وَالمُخَالِفَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَرَى تَجْسِيدَ هَذَا الكَلَامِ في قِصَّةِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ الجُمَحِيِّ وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ.

جَلَسَ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْحِجْرِ بِيَسِيرٍ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيَلْقَوْنَ مِنْهُمْ عَنَتَاً إِذْ هُمْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بن عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى أَصْحَابِ بَدْرٍ، قَالَ: فَذَكَرُوا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ بِمَصَائِبِهِمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: قَبَّحَ اللهُ الْعَيْشَ بَعْدَ قَتْلَى بَدْرٍ، قَالَ عمير: أَجَلْ، وَالله مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدَهُمْ، لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي قَضَاؤُهُ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي فِيهِمْ عِلَّةً، ابْنِي عِنْدَهُمْ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ، فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُسْوَتُهُمْ مَا بَقُوا لَا يَسَعُهُمْ شَيْءٌ نَعْجَزُ عَنْهُمْ، قَالَ عُمَيْرٌ: اكْتُمْ عَلَيَّ شَأْنِي وَشَأْنَكَ، قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عُمَيْرُ بِسَيْفِهِ، فَشُحِذَ وَسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْمَدِينَةِ.

فَبَيْنَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَذَاكَرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا أَكْرَمَهُمُ اللهُ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِذْ نَظَرَ إِلَى عُمَيْرِ بن وَهْبٍ قَدْ أَنَاخَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحَ السَّيْفِ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ الله عُمَيْرُ بن وَهْبٍ مَا جَاءَ إِلَّا لِشَرٍّ، هَذَا الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ.

ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا عَدُوُّ الله عُمَيْرُ بن وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحَاً السَّيْفَ.

قَالَ: «فَأَدْخِلْهُ».

فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَلَبَّبَهُ بِهَا، وَقَالَ عُمَرُ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا هَذَا الْكَلْبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ.

ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ، فَقَالَ: «أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ».

فَدَنَا، فَقَالَ: أَنْعِمُوا صَبَاحَاً، وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، السَّلامُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ كُنْتَ لَحَدِيثَ الْعَهْدِ بِهَا.

قَالَ: «فَمَا جَاءَ بِكَ؟».

قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ.

قَالَ: «فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟».

قَالَ: قَبَّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ، فَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئَاً؟

قَالَ: «اصْدُقْنِي مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟».

قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا لِهَذَا.

قَالَ: «بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ فَتَذَاكَرْتُمَا أَصْحَابِ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتَ: لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالِي، لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدَاً، فَتَحَمَّلَ صَفْوَانُ لَكَ بِدَيْنِكَ، وَعِيَالِكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي، وَاللهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ».

قَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إِلَّا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا أَنْبَأَكَ بِهِ إِلَّا اللهُ، فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ، وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ حِينَ هَدَاهُ الله.

وَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخِنْزِيرٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ حِينَ طَلَعَ، وَلَهُوَ الْيَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَعْضِ بَنِيَّ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اجْلِسْ يَا عُمَيْرُ نُوَاسِكَ».

فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: «عَلِّمُوا أَخَاكُمُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ» رواه الطبراني في الكَبِيرِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي لَا يَكْرَهُ عَدُوَّ اللهِ بِوَصْفِهِ إِنْسَانَاً، بَلْ يَكْرَهُ الصِّفَاتِ وَالَأَخْلَاقَ وَالأَفْكَارَ والأَعْمَالَ الضَّالَّةَ السَّيِّئَةَ.

كَمَا قَالَ تعالى مُوَضِّحَاً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا لُوطٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ خَاطَبَهُمْ وَهُمْ كَفَرَةٌ مُعَانِدُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾. أَيْ: أُبْغِضُ عَمَلَكُمْ لَا أُبْغِضُ ذَوَاتِكُمْ، فَالإِنْسَانُ يُحِبُّ وَيَكْرَهُ بِصِفَاتِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَسُلُوكِهِ.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلَّاً للذينَ آمَنُوا، وَاجْعَلْ حِرْصَنَا عَلَى إِيمَانِ أَهْلِ الأَرْضِ جَمِيعَاً. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 22/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 19/ كانون الأول / 2019م