156ـ هند بنت زاد الركب رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (2)

156ـ هند بنت زاد الركب رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتْ أُمُّنَا أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بِنْتُ زَادِ الرَّكْبِ مِنَ السَّابِقَاتِ إلى الإِسْلَامِ، وَكَانَتْ حَصِيفَةً جَلِيلَةً، ذَاتَ تَدْبِيرٍ وَفِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ وَجَمَالٍ، تَزَوَّجَهَا أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ المَخْزُومِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهَاجَرَ بِهَا إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ ثُمَّ هَاجَرَتْ إلى المَدِينَةِ، وَعَرَفْنَا قِصَّةَ هِجْرَتِهَا حَيْثُ كَانَتْ مِحْنَةً كَبِيرَةً، وَمَأْسَاةً عَظِيمَةً، حَيْثُ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَابْنِهَا، وَبَعْدَ سَنَةٍ مِنَ الفِرَاقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَابْنِهَا هَاجَرَتْ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ ظَعِينَةٍ دَخَلَتِ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ، وفي المَدِينَةِ تَفَرَّغَتْ لِتَرْبِيَةِ صِغَارِهَا سَلَمَةَ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَزَوْجُهَا تَفَرَّغَ للجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى معَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وفي غَزْوَةِ أُحُدٍ رُمِيَ بِسَهْمٍ في عَضُدِهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ بَرِئَ مِنْهُ، وَلَكِنْ في سَنَةِ أَرْبَعٍ انْتَكَأَ الجُرْحُ، وَحَـضَرَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ مَوْتِهِ، وَبَقِيَ إلى جَانِبِهِ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ حَتَّى مَاتَ، فَأَسْبَلَ بِيَدِهِ الكَرِيمَةِ عَيْنَيْهِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ.

جَاءَ في تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ: فَلَمَّا مَاتَ كَبَّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، فَلَمَّا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَسَهَوْتَ أَمْ نَسِيتَ؟

قَالَ: «لَمْ أَسْهُ وَلَمْ أَنْسَ، وَلَوْ كَبَّرْتُ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ أَلْفَاً كَانَ أَهْلَاً لِذَلِكَ».

الزَّوَاجُ المَيْمُونُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ دُعَاءِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِي هَذِهِ، فَأْجُرْنِي عَلَيْهَا، فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: وَعِضْنِي خَيْرَاً مِنْهَا، قُلْتُ فِي نَفْسِي: أُعَاضُ خَيْرَاً مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ ثُمَّ قُلْتُهَا، فَعَاضَنِي اللهُ مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَآجَرَنِي فِي مُصِيبَتِي. رواه ابن ماجه.

وَبَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، بَعَثَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَخْطِبُهَا، فَتَمَنَّتْ لَو يُتَاحُ لَهَا ذَاكَ الشَّرَفُ العَظِيمُ، لَكِنَّهَا أَشْفَقَتْ وَقَدْ جَاوَزَتْ سِنَّ الشَّبَابِ، وَمَعَهَا عِيَالٌ صِغَارٌ، أَلَّا تَمْلَأَ مَكَانَهَا في بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى جَانِبِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ.

وَأَرْسَلَتْ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَعْتَذِرُ، وَتَقُولُ: إِنَّهَا غَيْرَى، مُسِنَّةٌ .... ذَاتُ عِيَالٍ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَكْبَرُ مِنْكِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فَيُذْهِبُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ» فَتَزَوَّجَهَا. رواه الإمام أحمد.

رَأْيٌ صَائِبٌ، وَعَقْلٌ ثَاقِبٌ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتْ أُمُّنَا أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ذَاتَ رَأْيٍ صَائِبٍ وَعَقْلٍ ثَاقِبٍ، فَفِي العَامِ السَّادِسِ للهِجْرَةِ، خَرَجَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ لِأَدَاءِ العُمْرَةِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشَاً صَدَّتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَمَّ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ، وفي هَذَا الصُّلْحِ ظَهَرَ رَأْيُهَا الصَّائِبُ، وَعَقْلُهَا الثَّاقِبُ.

روى الإمام البخاري هَذَا الصُّلْحَ، وَمَا حَصَلَ مَعَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذْ قَالَ: فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقَّاً؟

قَالَ: «بَلَى».

قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟

قَالَ: «بَلَى».

قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَاً؟

قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي».

قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟

قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ».

قَالَ: قُلْتُ: لَا.

قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ».

قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقَّاً؟

قَالَ: بَلَى.

قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟

قَالَ: بَلَى.

قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَاً؟

قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ.

قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟

قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟

قُلْتُ: لَا.

قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، ـ قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ ـ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالَاً.

قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا».

قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدَاً مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدَاً مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضَاً حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضَاً غَمَّاً.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وفي سَنَةِ سِتِّينَ للهِجْرَةِ تُوُفِّيَتْ أُمُّنَا أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بِنْتُ زَادِ الرَّكْبِ بِالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا سَيِّدُنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَدُفِنَتْ بِالبَقِيعِ.

وَفي الخِتَامِ أَقُولُ: مَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ العَمَلِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ، وَلْيَقْتَدِ بِنَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾.

وَلْتَقْتَدِ نِسَاؤُنَا بِهَذِهِ السَّيِّدَةِ الجَلِيلَةِ صَاحِبَةِ الخُلُقِ وَالأَدَبِ وَالرِّفْعَةِ وَالمَكَانَةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَرَضِيَ اللهُ عَنَّا بِهَا. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 12/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 10/ تشرين الأول / 2019م