676ـ خطبة الجمعة: الطلاق وما أدراك ما الطلاق؟

676ـ خطبة الجمعة: الطلاق وما أدراك ما الطلاق؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: وَاقِعُنَا المَرِيرُ يَحْكِي لَنَاصُوَرَاً شَتَّى مِنَ اللَّامُبَالَاةِ بِقِيَمِ الأَلْفَاظِ، وَدَلَالَاتِ الكَلَامِ وَثَمَرَاتِهِ، تَرَى الكَلِمَةَ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ المَرْءِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالَاً، رُبَّمَا هَوَتْ بِهِ في مَسَالِكِ الضَّيَاعِ وَالرَّذِيلَةِ، بَعْضُ النَّاسِ اسْتَحْقَرَ وَاسْتَخَفَّ حَجْمَ الكَلِمَةِ، وَاسْتَنْكَفَ عَنْ مَعَانِيهَا، وَمَا عَلِمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ النِّيرَانَ تُذَكَّى بِالعِيدَانِ، وَأَنَّ الحَرْبَ وَالدَّمَارَ مَبْدَؤُهَا بِكَلِمَةٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ تَكُونُ مِعْوَلَاً صُلْبَاً يَهْدِمُ صَرْحَ أُسَرٍ وَبُيُوتَاتٍ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْقُلُ صَاحِبَهَا مِنْ سَعَادَةٍ وَهَنَاءَةٍ إلى مِحْنَةٍ وَشَقَاءٍ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُفَرِّقُ أَفْرَادَاً وَجَمَاعَاتٍ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ كَمْ مِنْ عَيْنٍ أَبْكَتْ، وَقَلْبٍ أَجْهَشَتْ، وَفُؤَادٍ رَوَّعَتْ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ صَغِيرٌ حَجْمُهَا، لَكِنَّ خَطْبَهَا جَليِلٌ، كَلِمَةٌ تُرْعِدُ الفَرَائِصَ بِوَقْعِهَا، وَتَجْعَلُ الفَرَحَ تَرَحَاً، وَالبَسْمَةَ غُصَّةً، إِنَّهَا كَلِمَةُ الطَّلَاقِ.

كَلِمَةُ الطَّلَاقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّلَاقُ؟ كَلِمَةٌ تَعْنِي الوَدَاعَ وَالفِرَاقَ، وَالنِّزَاعَ وَالشِّقَاقَ، كَلِمَةُ الطَّلَاقِ كَمْ هَدَّمَتْ مِنْ بُيُوتِ المُسْلِمِينَ؟ وَكَمْ قَطَّعَتْ مِنْ أَوَاصِرَ للأَرْحَامِ وَالمُحِبِّينَ؟ يَا لَهَا مِنْ سَاعَةٍ رَهِيبَةٍ، وَلَحْظَةٍ أَسِيفَةٍ يَوْمَ تَسْمَعُ المَرْأَةُ طَلَاقَهَا، فَتُكَفْكِفُ دُمُوعهَا، وَتُوَدِّعُ زَوْجَهَا، وَتَحْكُمُ عَلَى أَوْلَادِهَا بِاليُتْمِ مَعَ حَيَاتِهَا وَحَيَاةِ زَوْجِهَا.

يَا لَهَا مِنْ لَحْظَةٍ تَجِفُّ فِيها المَآقِي حِينَ تَقِفُ المَرْأَةُ عَلَى بَابِ بَيْتِهَا لِتُلْقِي النَّظَرَاتِ الأَخِيرَةَ، نَظَرَاتِ الوَدَاعِ عَلَى عُشِّ الزَّوْجِيَّةِ المَلِيئِ بِالأَيَّامِ وَالذِّكْرَيَاتِ.

يَا لَهَا مِنْ لَحْظَةٍ عَصِيبَةٍ حِينَ تُقْتَلَعُ المَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالسَّكِينَةُ مِنْ رِحَابِ ذَلِكَ البَيْتِ المُسْلِمِ المُبَارَكِ.

اخْتِلَالُ العِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ طَامَّةٌ كُبْرَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اخْتِلَالَ العِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ طَامَّةٌ كُبْرَى تُذَكِّي نَارَ الفُرْقَةِ، وَكَثْرَةُ الخِصَامِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تُضْرِمُ أُوَارَ تِلْكَ النَّارِ، وَلَو صَدَقَ الزَّوْجَانِ في الوَفَاءِ بِكَلِمَةِ عَقْدِ الزَّوَاجِ لَأَحَبَّ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ حُبَّاً صَادِقَاً، وَلَوَادَّ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ، وَوَادَّ لِأَجْلِهِ أَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ، لِأَنَّ المَوَدَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ البَشَرِ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ أَهْلِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، بَلْ سَعَادَةٌ للأُمَّةِ كُلِّهَا لِأَنَّ الأُمَّةَ مَا هِيَ إِلَّا مَجْمُوعَةُ هَذِهِ البُيُوتِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: تَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» رواه الإمام الترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَيَا صَاحِبَ الدِّينِ وَيَا صَاحِبَةَ الدِّينِ، مَهْمَا اخْتَلَفْتُمَا وَتَدَابَرْتُمَا، وَتَعَقَّدَتْ نُفُوسُكُمَا، فَإِنَّ كُلَّ عُقْدَةٍ وَكُلَّ خِلَافٍ وَكُلَّ تَدَابُرٍ يُحَلُّ مِنْ خِلَالِ الْتِزَامِ تَوْجِيهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرَاً أَحَدَاً أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرَاً» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَثَمَرَةُ الدِّينِ وَالخُلُقِ يَظْهَرُ في مَثَلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا مَـعْشَرَ النِّسَاءِ، لَوْ تَعْلَمْنَ حَقَّ أَزْوَاجِكُنَّ عَلَيْكُنَّ لَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْكُنَّ تَمْسَحُ الْغُبَارَ عَنْ وَجْهِ زَوْجِهَا بِنَحْرِ وَجْهِهَا. رواه ابن أبي شيبة.

فَمَا أَجْهَلَ الرَّجُلَ يُسِيءُ مُعَامَلَةَ امْرَأَتِهِ، وَمَا أَحْمَقَ المَرْأَةَ تُسِيءُ مَعَامَلَةَ بَعْلِهَا.

يَا أَيُّهَا الأَزْوَاجُ وَالزَّوْجَاتُ، كُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْ إِخْلَالِ العِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّ طَامَّتَهَا كُبْرَى، وَأَوَّلُ البَاكِينَ عَلَى نَتَائِجِ سُوءِ العِشْرَةِ هُوَ أَنْتُمْ، ثُمَّ أَبْنَاؤُكُمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مَعْصُومَاً، وَبِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَيْسَتْ مَعْصُومَةً «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَخْلُقِ الزَّوْجَيْنِ بِطِبَاعٍ وَاحِدَةٍ، وَالزَّوْجَانِ اللَّذَانِ يَظُنَّانِ أَنَّهُمَا مَخْلُوقٌ وَاحِدٌ يَعِيشَانِ في أَوْهَامٍ، كَيْفَ يُرِيدُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَنْ تُفَكِّرَ في عَقْلِهِ؟ وَكَيْفَ تُرِيدُ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَنْ يُحِسَّ بِقَلْبِهَا؟

صَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ ارْتِقَابَ الرَّاحَةِ الكَامِلَةِ في الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الوَهْمِ، لِذَلِكَ العَاقِلُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى قَبُولِ بَعْضِ المُضَايَقَاتِ، وَتَرْكِ التَّعْلِيقِ المَرِيرِ عَلَيْهَا.

يَا أَيُّهَا الأَزْوَاجُ: تَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾.

وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقَاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمَا يُخَاطَبُ بِهِ الأَزْوَاجُ تُخَاطَبُ بِهِ الزَّوْجَاتُ.

فَيَا أَيُّهَا الزَّوْجُ: قَبْلَ أَنْ تُفَكِّرَ بِكَلِمَةِ الطَّلَاقِ التي تُدَمِّرُ وَلَا تُعَمِّرُ عَلَيْكَ أَنْ تُفَكِّرَ في حَسَنَاتِ زَوْجَتِكَ في سَاعَةِ الغَضَبِ، وَبَعْدَ اسْتِحْضَارِ الحَسَنَاتِ تَكَلَّمْ.

وَقَبْلَ أَنْ تُفَكِّرَ الزَّوْجَةُ في طَلَبِ الطَّلَاقِ مِنْ زَوْجِهَا، لِتَتَذَكَّرْ حَسَنَاتِهِ ثُمَّ لِتَتَكَلَّمْ.

وَلْيَذْكُرْ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾. كَمْ فَضْلُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ وَكَمْ فَضْلُ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟

لِنَلْتَزِمْ هَدْيَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَسْعَدَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 13/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 11/ تشرين الأول / 2019م