157ـ الرباني الحكيم معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

157ـ الرباني الحكيم معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ العِلْمَ لَهُ مَكَانَةٌ عَالِيَةٌ في الإِسْلَامِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ كَلِمَةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ القُرْآنِ الكَريمِ: ﴿اقْرَأْ﴾. ثُمَّ قَوْلُهُ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. ثُمَّ قَوْلُهُ تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾. ثُمَّ قَوْلُهُ تعالى آمِرَاً أَنْ نَطْلُبَ مِنْهُ زِيَادَةَ العِلْمِ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً﴾.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

مَا الفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ العِلْمِ إِنَّهُمُ    ***   عَـلَى الهُـدَى لِمَنِ اسْـتَهْدَى أَدِلَّاءُ

وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ    ***   وَالجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الـعِـلْـمِ أَعْدَاءُ

فَـفُـزْ بِـعِـلْمٍ تَعِشْ حَيَّاً بِهِ أَبَدَاً   ***   فَالنَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ

وَقَدْ قِيلَ: كَفَى بِالعِلْمِ شَرَفَاً أَنَّ الجَاهِلَ إِذَا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ جَاهِلٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَيَتَمَنَّى لَو لَمْ تُقَلْ لَهُ تِلْكَ الكَلِمَةُ.

وَيَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَوْلَا العُلَمَاءُ لَصَارَ النَّاسُ مِثْلَ البَهَائِمِ.

﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا مَنَّ اللهُ تعالى عَلَى أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ آتَاهُمُ الحِكْمَةَ وَالفِقْهَ عَنْهُ، وَالعِلْمَ بِهِ، بِقَدْرِ مَا أَخْلَصُوا لله عُبُودِيَّتَهُمْ، وَبِقَدْرِ مَا طَهَّرُوا بِطُهْرِ العِبَادَةِ قُلُوبَهُمْ، وَبِقَدْرِ مَا جَاهَدُوا في اللهِ أَنْفُسَهُمْ، وَبِقَدْرِ مَا اسْتَوْدَعُوا مِنْ إِيمَانٍ بِهِ، وَيَقِينٍ بِمَا جَاءَ في كِتَابِهِ وَحُبٍّ لِذَاتِهِ، وَبِقَدْرِ مَا تَخَفَّفُوا مِنْ جَوَاذِبِ الأَرِضِ، وَعَلَائِقِ الشَّهَوَاتِ، وَبِقَدْرِ مَا أَحْسَنُوا التَّلَقِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِقَدْرِ مَا تَفَانَوا في سَبِيلِ إِعْزَازِ الإِسْلَامِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، نَعَمْ ... بِقَدْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَنْعَمَ المَوْلَى عَلَيْهِمْ، فَفَتَحَ بَصَائِرَهُمْ عَلَى كُنُوزِ الحِكْمَةِ، وَأَوْرَدَهُمْ يَنَابِيعَهَا، ثُمَّ تَفَجَّرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ شِعْرَاً وَنَثْرَاً، فَكَانَتْ قَبَسَاً مِنَ الرَّحْمَنِ، وَفَيْضَاً مِنَ الإِلْهَامِ، وَشَهْدَاً مِنَ البَيَانِ، في الذُّرْوَةِ مِنَ المَعْنَى، وَفي القِمَّةِ مِنَ البَلَاغَةِ ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾. ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾.

مَا أَكْثَرَ مَا نُسبَ للصَّحَابَةِ مِنْ أَقْوَالٍ مَأْثُورَةٍ وَحِكَمٍ مَنْثُورَةٍ، وَدُرَرٍ مَنْضُودَةٍ، تَنَاقَلَهَا الرُّوَاةُ جِيلَاً بَعْدَ جِيلٍ، وَظُنَّتْ مِنَ الحَدِيثِ، وَمَا هِيَ بِالحَدِيثِ، لَكِنَّهَا جَاءَتْ تَقْرِيبَاً في مِثْلِ بَيَانِ الحَدِيثِ وَإِشْرَاقِهِ وَبَلَاغَتِهِ، فَوَقَعَ اللَبْسُ، وَوَقَعَ الخَلْطُ، وَيَرْحَمُ اللهُ عُلَمَاءَ الحَدِيثِ الذينَ مَيَّزُوا مَا بَيْنَ أَقْوَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَا بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

الرَّبَّانِيُّ الحَكِيمُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ حِكْمَةً وَعِلْمَاً وَمِنْ أَكْثَرِ مَنٍْ نُسِبَت إِلَيْهِ الأَقْوَالُ المَأْثُورَةُ وَالحِكَمُ المَنْثَورَةُ، بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ تعالى مِنْ نُورٍ وَعِلْمٍ وَفِقْهٍ وَرَبَّانِيَّةٍ، حَتَّى وَصَفَ مَجْلِسَ عِلْمِهِ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ السُّكُونِيُّ فَقَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ حِمْصَ فَإِذَا أَنَا بِفَتَىً حَوْلَهُ النَّاسُ جَعْدٌ قَطَطُ (أَيْ: شَعْرُهُ شَدِيدُ الجُعُودَةِ) فَإِذَا تَكَلَّمَ كَأَنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ نُورٌ وَلُؤْلُؤٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. /كذا في حلية الأولياء.

كَيْفَ لَا، وَهُوَ كَانَ أَحَدَ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، بَلْ كَانَ أَبْرَزَ وُرَّاثِ العِلْمِ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ عَنِ الإِمَامِ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى قَالَ: شَامَمْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمُ انْتَهَى إِلَى سِتَّةٍ:

إِلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ وَمُعَاذٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ.

تَمْجِيدُ سَيِّدِنَا مُعَاذٍ للعِلْمِ في كَلِمَةٍ حَكِيمَةٍ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الأَقْوَالِ الحَكِيمَةِ المَنْسُوبَةِ لِسَيِّدِنَا مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ في تَمْجِيدِ العِلْمِ وَحَفْزِ النَّاسِ إلى طَلَبِهِ، وَتَرْغِيبِهِمْ فِيهِ، يَقُولُ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ للهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، لأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَالأُنْسُ فِي الْوَحْدَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْعُزْلَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الأَخِلَّاءِ، وَالْقَرِيبُ عِنْدَ الْغُرَبَاءِ، يَرْفَعُ اللهُ بِهِ أَقْوَامَاً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً، وَهُدَاةً يُهْتَدَى بِهِمْ، وَأَئِمَّةً فِي الْخَيْرِ تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَتُرْمَقُ أَعْمَالُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلائِكَةُ فِي خِلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَفِي صَلاتِهَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى حِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ، وَالسَّمَاءُ وَنُجُومِهَا، لأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى، وَنُورُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، وَقُوَّةُ الأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ، يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ، وَمَجَالِسَ الْمُلُوكِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالْفِكْرَةُ فِيهِ تُعْدَلُ بِالصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ، وَبِهِ يُطَاعُ وَيُعْبَدُ، وَبِهِ يُعْمَلُ وَيُحْفَدُ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ وَيُؤْجَرُ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلالُ مِنَ الْحَرَامِ، إِمَامُ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ، قَالَ: تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ. / كذا في جَامِعِ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ.

وَيَقُولُ: اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا، فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللهُ بِعِلْمِهِ حَتَّى تَعْمَلُوا. / كذا في جَامِعِ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ مَجَّدَتِ العِلْمَ، وَأَعْلَتْ ذِكْرَهُ، وَرَفَعَتْ قَدْرَهُ، وَحَضَّتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَنْفَرَتِ الطَّاقَاتِ، وَشَوَّقَتِ النُّفُوسَ لَهُ، كَمَا فَعَلَتْ أُمَّةُ الإِسْلَامِ، مِنْ خِلَالِ أَمْرِ اللهِ وَتَوْجِيهِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْغِيبِ وُرَّاثِهِ مِنَ العُلَمَاءِ أَمْثَالِ سَيِّدِنَا مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الذي جَمَعَ في وَصِيَّتِهِ الجَامِعَةِ البَلِيغَةِ هَذِهِ، كُلَّ مَا وَرَدَ في كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في شَأْنِ العِلْمِ، بَيَانَاً لِمَنْزِلَتِهِ، وَتَعْظِيمَاً لِثَوَابِهِ، وَإِعْزَازَاً لِرُوَّادِهِ، وَتَرْغِيبَاً بِطَلَبِهِ، وَصَبْرَاً عَلَى تَحْصِيلِهِ.

وَفي الخِتَامِ، يَسْأَلُ الفَارُوقُ مُعَاذَاً يَوْمَاً، فَقَالَ لَهُ: مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟

قَالَ مُعَاذٌ: ثَلَاثٌ وَهُنَّ الْمُنْجِيَاتِ: الإِخْلَاصُ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ، فِطْرَةُ اللهُ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الْمِلَّةُ، وَالطَّاعَةُ وَهِيَ العِصْمَةُ.

فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ.

فَلَمَّا جَاوَزَهُ قَالَ مُعَاذٌ لِجُلَسَائِهِ: أَمَّا إِنَّ سِنِيَّكَ خَيْرٌ مِنْ سِنِيِّهِمْ (أَيْ: شَبَابُكَ خَيْرٌ مِنْ شَبَابِهِمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَوِيَّاً في العَقْلِ وَالعِلْمِ) وَيَكُونُ بَعْدَكَ اخْتِلَافٌ، وَلَنْ يَبْقَى إِلَّا يَسِيرَاً. /كذا في كنز العمال.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِالعِلْمَ النَّافِعِ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 19/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 17/ تشرين الأول / 2019م