53ـ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (2)

53ـ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا تَحَدَّثْنَا عَنِ انْتِفَاعِ الوَالِدَيْنِ بِأَعْمَالِ الوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، قَدْ يُنْكِرُ البَعْضُ هَذَا، وَيَجْعَلُ انْتِفَاعَ الوَالِدَيْنِ بِدُعَاءِ الوَلَدِ لَهُمَا فَقَطْ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَعَرَفْنَا في الدَّرْسِ المَاضِي، بِأَنَّ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ المَيْتِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، إِنَّمَا نَصَّ عَلَى انْقِطَاعِ عَمَلِ نَفْسِ الإِنْسَانِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ في هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.

فَالمَيْتُ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ مِنْ وَلَدٍ أَو غَيْرِهِ إِذَا وَهَبَهُ العَمَلَ.

وَقَدْ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ انْتِفَاعِ المَيْتِ بِأَعْمَالِ الآخَرِينَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾.

الرَّدُّ عَلَى هَذَا الاعْتِرَاضِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾. تُحَدِّدُ مَسْأَلَةَ العَدْلِ، وَلَكِنَّهَا لَا تُحَدِّدُ مَسْأَلَةَ الفَضْلِ الذي يُعْطِيهِ اللهُ تعالى لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ.

وَلِتَقْرِيبِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ نَضْرِبُ لَهَا مَثَلَاً، لَو أَنَّ صَاحِبَ عَمَلٍ قَالَ لِأَجِيرِهِ: إِنَّ لَكَ أَجْرَاً قَدْرُهُ أَلْفُ لَيْرَةٍ عَلَى مَا تُقَدِّمُهُ مِنْ عَمَلٍ، ثُمَّ جَاءَ عِنْدَ نِهَايَةِ العَمَلِ أَعْطَاهُ زِيَادَةً عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَعَهُ، هَذَا يُقَالُ عَنْهُ فَضْلٌ، الأَلْفُ هِيَ العَدْلُ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ الفَضْلُ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾. هذا أولاً.

ثانياً: لَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في بَيَانِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ، وَهَلِ المَقْصُودُ بِهِ عُمُومُهَا أَمْ هِيَ خَاصَّةٌ، وَهَلْ هِيَ في أَهْلِ الكِتَابِ أَمْ شَامِلَةٌ، عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ:

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾. أُدْخِلَ الأَبْنَاءُ الجَنَّةَ بِصَلَاحِ آبَائِهِمْ، فَيُجْعَلُ الوَلَدُ الطِّفْلُ يَوْمَ القِيَامَةِ في مِيزَانِ أَبِيهِ، وَيُشَفِّعُ اللهُ تعالى الآبَاءَ في الأَبْنَاءِ، وَالأَبْنَاءَ في الآبَاءِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعَاً﴾. اهـ.

وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، لِأَنَّهَا خَبَرٌ مِنَ اللهِ تعالى، وَالخَبَرُ مِنَ اللهِ تعالى لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ.

ثالثاً: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾. هَذَا الإِنْسَانُ في هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الكَافِرُ، وَأَمَّا المُؤْمِنُ فَلَهُ مَا سَعَى، وَمَا سَعَى لَهُ غَيْرُهُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى﴾.

قَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ الأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا القَوْلِ، وَيَشْهَدُ لَهُ، وَأَنَّ المُؤْمِنَ يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ العَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِهِ. اهـ.

رابعاً: وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في التَّذْكَرَةِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾. خَاصَّاً في السَّيِّئَةِ بِدَلِيلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً». دَالٌّ عَلَى هَذَا. قَالَ اللهُ تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. وَقَالَ في الآيَةِ الأُخْرَى: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾. وَقَالَ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾. وَهَذَا كُلُّهُ تَفَضُّلٌ مِنَ اللهِ تعالى، وَطَرِيقُ العَدْلِ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾. إِلَّا أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُجِبْ لَهُ كَمَا أَنَّ زِيَادَةَ الأَضْعَافِ فَضْلٌ مِنْهُ كَتَبَ لَهُمْ بِالحَسَنَةِ الوَاحِدَةِ: عَشْرَاً إلى سَبْعِمِائَةِ ضَعْفٍ إلى أَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةٍ.

خامساً: إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ خَاصَّةٌ بِقَوْمِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يَعْنِي في صُحُفِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾.

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ـ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ: كَانُوا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْخُذُونُ الرَّجُلَ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَيَأْخُذُونُ الوَلِيَّ بِالوَلِيِّ في القَتْلِ وَالجِرَاحَةِ، فَيُقْتَلُ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَقَرِيبِهِ وَزَوْجَتِهِ وَزَوْجِهَا وَعَبْدِهِ، فَبَلَّغَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. وَعَطَفَ عَلَيْهَا: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾. فَهُمَا في صَحِيفَتَيْهِمَا وَمُخْتَصٌّ بِهِمَا.

أَمَّا هَذِهِ الأُمَّةُ فَلَهَا مَا سَعَتْ، وَمَا سَعَى لَهَا غَيْرُهَا، كَمَا قَالَ عِكْرِمَةُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى للتَّقَرُّبِ إلى اللهِ تعالى مَا دَامَتْ أَرْوَاحُنَا في أَجْسَادِنَا، وَالنَّاسُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا سَعْيُهُمْ مُخْتَلِفٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ سَعْيُهُ في طَلَبِ الدُّنْيَا، فَهَذَا العَبْدُ خَابَ وَخَسِرَ عِنْدَ مَوْتِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ سَعْيُهُ في طَلَبِ الجَنَّةِ وَرِضْوَانِ اللهِ تعالى، فَهَذَا العَبْدُ هُوَ الرَّابِحُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ سَعْيُهُ في مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ لِيُحَقِّقَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ في مَسِيرَةِ حَيَاتِهِ، فَهَذَا العَبْدُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ سَعْيُهُ في طَلَبِ المَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ تعالى، لِأَنَّهُ كَانَ نَادِمَاً وَمُفَرِّطَاً في جَنْبِ اللهِ تعالى، فَهَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً﴾. وَتَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِاغْتِنَامِ أَنْفَاسِ أَعْمَارِنَا قَبْلَ نِهَايَةِ آجَالِنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 22/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 20/ تشرين الأول / 2019م