12ـ أنواع المطهرات (1)

12ـ أنواع المطهرات (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنْوَاعَاً أُخْرَى للتَّطْهِيرِ غَيْرَ الغَسْلِ بِالمَاءِ وَالمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ.

أولاً: الدَّلْكُ: تَطْهِيرُ الخُفِّ وَالنَّعْلِ إِذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ ذَاتُ جِرْمٍ، يَكُونُ بِالدَّلْكِ، وَذَلِكَ بِمَسْحِهِ عَلَى الأَرْضِ مَسْحَاً قَوِيَّاً يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، وَذَلِكَ لِمَا رواه أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ، قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟».

قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرَاً ـ أَوْ قَالَ: أَذَىً ـ». وَقَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرَاً أَوْ أَذَىً فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا».

وَلِمَا رواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَا هُوَ يُصَلِّي يَوْمَاً خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟».

قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا.

فَقَالَ: «إِنَّ جِبْرَئِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا قَذَرَاً، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِمَا قَذَرٌ فَلْيَدْلِكْهُمَا بِالأَرْضِ».

وَجَاءَ في الجَامِعِ الصَّحِيحِ للسُّنَنِ وَالمَسَانِيدِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الأَرْضِ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورٌ لَهُمَا».

وَهَذَا عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ النَّجَاسَةُ ذَاتَ جِرْمٍ كَالدَّمِ وَالبَوْلِ لَا يَطْهُرُ الخُفُّ وَالنَّعْلُ إِلَّا بِالغَسْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَعَ الجَفَافِ في كُلِّ مَرَّةٍ.

ثانياً: المَسْحُ:

ذَهَبَ فُقَهَاءُ الحَنَفِيَّةِ إلى أَنَّ المَسْحَ يُطَهِّرُ كُلَّ جِسْمٍ صَقِيلٍ كَالسَّيْفِ وَالمِرْآةِ وَالزُّجَاجِ وَالمَرَايَا بِحَيْثُ يَزُولُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ أَصْحَابَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقْتُلُونَ الكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ ثُمَّ يَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ وَهُمْ يَحْمِلُونَهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الأَجْسَامَ لَا تَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهَا يَزُولُ بِالمَسْحِ.

وَخَالَفَ في ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَالُوا: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئَاً صَقِيلَاً كَالسَّيْفِ وَالمِرْآةِ، فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالمَسْحِ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِعُمُومِ الأَمْرِ بِغَسْلِ الأَنْجَاسِ؛ وَالمَسْحُ لَيْسَ غَسْلَاً.

ثالثاً: التَّكْرَارُ:

تَكْرَارُ المَشْيِ في الثَّوْبِ الطَّوِيلِ الذي يَمَسُّ الأَرْضَ النَّجِسَةَ وَالطَّاهِرَةَ يُطَهِّرُ الثَّوْبَ، لِأَنَّ الأَرْضَ يُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضَاً، روى أبو داود عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَتْ: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي فِي المَكَانِ القَذِرِ؟

فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ».

رابعاً: الجَفَافُ يُطَهِّرُ الأَرْضَ:

إِذَا أَصَابَتِ الأَرْضَ نَجَاسَةٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَو بِالهَوَاءِ أَو النَّارِ وَذَهَبَ أَثَرُهَا، وَهُوَ هُنَا اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى تِلْكَ الأَرْضِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ المَطْلُوبَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ، وَلِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ الطَّهُورِيَّةُ، وَالذي يَتَحَقَّقُ بِالجَفَافِ هُوَ الطَّهَارَةُ دُونَ الطَّهُورِيَّةِ.

وَاسْتَدَلَّ الفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الأَرْضِ بِالجَفَافِ بِالشَّمْسِ أَو الهَوَاءِ بِمَا رواه أبو داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ فَتَىً شَابَّاً عَزَبَاً، وَكَانَتِ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئَاً مِنْ ذَلِكَ.

وَهَذَا الحُكْمُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الحَنَفِيَّةِ، خِلَافَاً للجُمْهُورِ الذينَ قَالُوا بِأَنَّ الأَرْضَ إِذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَلَا تَطْهُرُ إِلَّا بِالمَاءِ، وَذَلِكَ بِمُكَاثَرَةِ المَاءِ عَلَيْهَا حَتَّى تَزُولَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، كَمَا جَاءَ في حَدِيثِ الأَعْرَابِيِّ الذي بَالَ في المَسْجِدِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلَاً مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبَاً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».

خامساً: الفَرْكُ:

يَخْتَلِفُ حُكْمُ المَنِيِّ الرَّطْبِ عَنِ المَنِيِّ اليَابِسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ،

ذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ إلى أَنَّ مَحَلَّ المَنِيِّ اليَابِسِ يَطْهُرُ بِفَرْكِهِ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرِهِ، فَإِنْ كَانَ رَطْبَاً فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ وَلَا يُجْزِئُ الفَرْكُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «إِنْ كَانَ رَطْبَاً فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسَةً فَافْرُكِيهِ» كذا في الجَامِعِ الصَّحِيحِ للسُّنَنِ وَالمَسَانِيدِ.

وَلِحَدِيثِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَتْ تَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ غَسْلُ المَنِيِّ مُطْلَقَاً، سَوَاءٌ كَانَ رَطْبَاً أَو جَافَّاً، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِطَهَارَةِ المَنِيِّ.

وَلَا فَرْقَ في هَذَا بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ المَرْأَةِ، وَلَا فَرْقَ أَيْضَاً بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى البَدَنِ أَو الثَّوْبِ، وَقَدْ قَيَّدُوا الطَّهَارَةَ بِالفَرْكِ إِذَا بَالَ الإِنْسَانُ ثُمَّ اسْتَنْجَى بِالمَاءِ، أَمَّا إِذَا اسْتَنْجَى بِالوَرَقِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَطْهُرُ بِالفَرْكِ، لِاخْتِلَاطِ المَنِيِّ بِالنَّجَاسَةِ، وَلَا يَطْهُرُ حِينَئِذٍ إِلَّا بِالغَسْلِ. هذا، والله تعالى أعلم.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في دِينِنَا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 23/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 21/تشرين الأول / 2019م