8ـ ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾

8ـ ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى في سُورَةِ العَلَقِ: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾. جَاءَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ تَكْرِيرُ الأَمْرِ بِالقِرَاءَةِ للإِشْعَارِ بِحَاجَةِ الإِنْسَانِ لِمُتَابَعَةِ القِرَاءَةِ في حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَغْذِيَةِ فِكْرِهِ وَقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ بِالمَعَارِفِ وَالعُلُومِ، فَدِينُنَا دِينُ القِرَاءَةِ وَالعِلْمِ، لِأَنَّ العِلْمَ رُوحُ الحَيَاةِ، وَرُوحٌ للقُلُوبِ وَالأَرْوَاحِ، فَكَمَا أَنَّ الجَسَدَ بِحَاجَةٍ إلى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالتَّنَفُّسِ، فَكَذَلِكَ الرُّوحُ وَالقَلْبُ وَالعَقْلُ بِحَاجَةٍ إلى العِلْمِ.

﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾: هَذَا الخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتْ الصِّيغَةُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فَهُنَاكَ كَرِيمٌ وَأَكْرَمُ، فَعِنْدَمَا يَتَعَلَّمُ الإِنْسَانُ مِنْ بَشَرٍ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَمِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، لِأَنَّهُ يَسَّرَ للإِنْسَانِ العِلْمَ عَنْ طَرِيقِ البَشَرِ، أَمَّا إِذَا كَانَ اللهُ هُوَ الذي سَيُعَلِّمُكَ فَيَكُونُ هُوَ الأَكْرَمُ، فَاللهُ تعالى هُوَ الذي رَفَعَ قَدْرَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ الذي تَوَلَّى تَعْلِيمَكَ ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمَاً﴾.

فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى هُوَ الأَكْرَمُ مِنْ كُلِّ كَرِيمٍ، فَلَا يَقْتَصِرُ عَطَاؤُهُ عَلَى حُدُودِ مَا يَطْلُبُ القَارِئُ الوُصُولَ إِلَيْهِ مِنَ المَعَانِي وَالمَعَارِفِ التي تَدُلُّ عَلَيْهَا الأَلْفَاظُ المَكْتُوبَةُ، بَلْ يَزِيدُهُ مِنْ كَرَمِهِ العَظِيمِ فُيُوضَاً مِنَ المَعَارِفِ فَوْقَهَا ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾: مِنْ وَسَائِلِ التَّعَلُّمِ وَسِيلَةُ القَلَمِ، فَاللهُ تعالى عَلَّمَ بِالقَلَمِ كَمَا عَلَّمَ الإِنْسَانَ النُّطْقَ، قَالَ تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾.

روى أبو داود عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ؛ قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».

وَيُرْوَى أَنَّ سَيِّدَنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَ عِفْرِيتَاً عَنِ الكَلَامِ، فَقَالَ: رِيحٌ لَا يَبْقَى، قَالَ: فَمَا قَيْدُهُ، قَالَ: الكِتَابَةُ.

فَالقَلَمُ صَيَّادٌ يَصِيدُ العُلُومَ، العِلْمُ صَيْدٌ وَالكِتَابَةُ قَيْدٌ، روى الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ».

قُلْتُ: وَمَا تَقْيِيدُهُ؟

قَالَ: «كِتَابَتُهُ».

وَمَا دُوِّنَتِ العُلُومُ وَلَا قُيِّدَتِ الحِكَمُ وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَارُ الأَوَّلِينَ وَمَقَالَاتُهُمْ، وَلَا كُتُبُ اللهِ المُنْزَلَةُ إِلَّا بِالكِتَابَةِ، وَلَوْلَا الكِتَابَةُ مَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا.

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ».

وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي».

وَيَقُولُ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالأَقْلَامُ في الأَصْلِ ثَلَاثَةٌ: القَلَمُ الأَوَّلُ: الذي خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ.

وَالقَلَمُ الثَّانِي: أَقْلَامُ المَلَائِكَةِ، جَعَلَهَا اللهُ بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا المَقَادِيرَ وَالكَوَائِنَ وَالأَعْمَالَ.

وَالقَلَمُ الثَّالِثُ: أَقْلَامُ النَّاسِ، جَعَلَهَا اللهُ بِأَيْدِيهِمْ، يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ، وَيَصِلُونَ بِهَا مَآرِبَهُمْ.

وَفِي الكِتَابَةِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ؛ وَالكِتَابَةُ مِنْ جُمْلَةِ البَيَانِ، وَالبَيَانُ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الآدَمِيُّ.

وَيَقُولُ كَذلِكَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَتِ العَرَبُ أَقَلَّ الخَلْقِ مَعْرِفَةٍ بِالكِتَابِ، وَأَقَلَّ العَرَبِ مَعْرِفَةً بِهِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، صُرِفَ عَنْ عِلْمِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَتَ لِمُعْجِزَتِهِ، وَأَقْوَى في حُجَّتِهِ. اهـ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾: فَمِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الجَهْلِ إلى نُورِ العِلْمِ، وَنَبَّهَ عَلَى فَضْلِ عِلْمِ الكِتَابَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعَ عَظِيمَةٍ التي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا هُوَ.

وَبَعْضُ العُلَمَاءِ يَقُولُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ﴾. هُوَ آَدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾.

فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا وَعَلَّمَ اللهُ تعالى اسْمَهُ لِسَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ أَنْبَأَ المَلَائِكَةَ الكِرَامَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تعالى، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْلُهُ.

وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الإِنْسَانُ هُنَا هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قَالَ لَهُ تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمَاً﴾.

وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئَاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

وَجَمِيعُ هَذِهِ الأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ، فَاللهُ تعالى عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَعَلَّمَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَعَلَّمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.

وَأَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ يَكُونَ هَذَا العِلْمُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ محرم /1441هـ، الموافق: 26/أيلول / 2019م