9ـ ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾

9ـ ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى في سُورَةِ العَلَقِ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾. المَقْصُودُ بِالإِنْسَانِ هُنَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَمِنْ ثَمَّ مَنْ سَارَ عَلَى سَيْرِهِ وَسَلَكَ نَهْجَهُ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟

قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ.

فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.

قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟

فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقَاً مِنْ نَارٍ وَهَوْلَاً وَأَجْنِحَةً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً.

قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ ـ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدَاً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ـ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ ـ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿كَلَّا﴾ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللهِ تعالى بِطُغْيَانِهِ، وَالطُّغْيَانُ هُوَ التَّكَبُّرُ وَالتَّمَرُّدُ بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا وَالاشْتِغَالِ بِالمَالِ وَالجَاهِ وَالثَّرْوَةِ، وَلَا سَبَبَ لِعَمَى القَلْبِ إِلَّا هَذَا، لِذَلِكَ طَغَى أَبُو جَهْلٍ كَمَا طَغَى فِرْعَوْنُ مِنْ قَبْلِهِ حَتَّى ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَالَ تعالى في حَقِّهِ لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾.

الفَارِقُ بَيْنَ الفِرْعَوْنَيْنِ:

الفَارِقُ كَبِيرٌ بَيْنَ فِرْعَوْنِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِرْعَوْنِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فِرْعَوْنُ سَيِّدِنَا مُوسَى أَحْسَنَ إلى سَيِّدِنَا مُوسَى ابْتِدَاءً، وَفي الخَاتِمَةِ السَّيِّئَةِ قَالَ: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾؟

أَمَّا فِرْعَوْنُ سَيِّدِنَا مُحَمَدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَاقِدَاً حَاسِدَاً النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في صِبَاهُ، وَفي آخِرِ رَمَقٍ لَهُ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِّي مُحَمَّدَاً أَنِّي أَمُوتُ وَلَا أَحَدَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْهُ. /كذا في تفسير الرازي.

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾. هَذَا النَّصُّ قَدْ جَاءَ بِمَثَابَةِ التَّعْلِيلِ للحِكْمَةِ مِنْ إِرْسَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا هَذِهِ الرِّسَالَةِ التي تُعَرِّفُ النَّاسَ بِالحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَتُعَرِّفُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، لَطَغَى الإِنْسَانُ، وَلَمْ يَجِدْ رَادِعَاً يَرْدَعُهُ عَنْ طُغْيَانِهِ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾. هَذَا الاسْتِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ بِالمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالقُوَّةِ وَالجَاهِ وَالسُّلْطَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالأَتْبَاعِ وَالأَنْصَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.

الاسْتِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيَّاً، وَهَذَا للهِ تعالى وَحْدَهُ، فَاللهُ تعالى هُوَ الغَنِيُّ عَنِ العَالَمِينَ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾. فَهُوَ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ، وَغَنِيٌّ بِصِفَاتِهِ، وَغَنِيٌّ بِأَفْعَالِهِ، وَهُوَ المَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ.

وَقَدْ يَكُونُ الاسْتِغْنَاءُ شُعُورَاً نَفْسِيَّاً كَاذِبَاً، وَهَذَا وَصْفُ العَبْدِ الغَافِلِ عَنِ اللهِ تعالى، النَّاسِي لِحَقِيقَةِ نَفْسِهِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ اللهِ تعالى، فَهُوَ يَعِيشُ في شُعُورٍ فَاسِدٍ، وَيَسْتَنِدُ إلى وَهْمٍ كَاذِبٍ.

نَعَمْ السُّكْرُ بِالدُّنْيَا أَشَدُّ مِنْ سُكْرِ الخَمْرِ، لِأَنَّ شَارِبَ الخَمْرِ يَصْحُو بَعْدَ سَاعَاتٍ، أَمَّا مَنْ شَرِبَ حُبَّ المَالِ وَالجَاهِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا تُرْجَى إِفَاقَتُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرَ القَلْبِ مَعَ اللهِ تعالى.

نَعَمْ العَبْدُ الحَاضِرُ مَعَ اللهِ تعالى لَا تُنْسِيهِ هَذِهِ النِّعَمُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ بَلْ تَزِيدُهُ تَوَاضُعَاً وَعُبُودِيَّةً للهِ تعالى، كَمَا حَصَلَ لِسَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

روى ابْنُ حِبَّانَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ».

لَو أَنْصفَ العَاقِلُ لَرَدَّ النِّعْمَةَ إلى صَاحِبِهَا ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾. وَلَكِنَّ الغَفْلَةَ عَنِ اللهِ تعالى مِنْ أَدْهَى المُصِيبَاتِ.

رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَتَزْعُمُ أَنَّ مَنِ اسْتَغْنَى طَغَى، فَاجْعَلْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبَاً وَفِضَّةً لَعَلَّنَا نَأْخُذُ مِنْهَا فَنَطْغَى، فَنَدَعُ دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَعَلْنَا بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ المَائِدَةِ، فَكَفَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّعَاءِ إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ. /كذا في تفسير الرازي.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَجْعَلَ مُصِيبَتَنَا في دِينِنَا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا إلى النَّارِ مَصِيرَنَا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 4/ صفر /1441هـ، الموافق: 3/تشرين الأول / 2019م