12ـ المنهج العملي في التصوف (2)

12ـ المنهج العملي في التصوف (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تعالى، المُرْشِدُ الكَبِيرُ، سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في كِتَابِهِ: حَقائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ:

وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَكُلُّ إِنْسَانٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَاضٍ قَلْبِيَّةٍ، وَعِلَلٍ خَفِيَّةٍ لَا يُدْرِكُهَا بِنَفْسِهِ، كَالرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَالغُرُورِ وَالحَسَدِ، وَالأَنَانِيَّةِ وَحُبِّ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ، وَالعُجْبِ وَالكِبْرِ وَالبُخْلِ... بَلْ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ خُلُقَاً، وَأَقْوَمُهُمْ دِينَاً، وَهَذَا هُوَ الجَهْلُ الـمُرَكَّبُ، وَالضَّلَالُ الـمُبِينُ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالَاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً﴾.

فَكَمَا أَنَّ الـمَرْءَ لَا يَرَى عُيُوبَ وَجْهِهِ إِلَّا بِمِرْآةٍ صَافِيَةٍ مُسْتَوِيَةٍ، تَكْشِفُ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ حَالِهِ، فَكَذَلِكَ لَا بُدَّ للمُؤْمِنِ مِنْ أَخٍ مُؤْمِنٍ مُخْلِصٍ نَاصِحٍ صَادِقٍ، أَحْسَنَ مِنْهُ حَالَاً، وَأَقْوَمَ خُلُقَاً، وَأَقْوَى إِيمَانَاً، يُصَاحِبُهُ وَيُلَازِمُهُ، فَيُرِيهِ عُيُوبَهُ النَّفْسِيَّةَ، وَيَكْشِفُ لَهُ عَنْ خَفَايَا أَمْرَاضِهِ القَلْبِيَّةِ، إِمَّا بِقَالِهِ أَو بِحَالِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الـمُؤْمِنُ مِرْآةُ الـمُؤْمِنِ» رواه أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَعَلَيْنَا أَنْ نُلَاحِظَ أَنَّ الـمَرَايَا أَنْوَاعٌ وَأَشْكَالٌ، فَمِنْهَا الصَّافِيَةُ الـمُسْتَوِيَةُ، وَمِنْهَا الجَرْبَاءُ التي تُشَوِّهُ جَمَالَ الوَجْهِ، وَمِنْهَا التي تُكَبِّرُ أَو تُصَغِّرُ.

وَهَكَذَا الأَصْحَابُ، فَمِنْهُمُ الذي لَا يُرِيكَ نَفْسَكَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَيَمْدَحُكَ حَتَّى تَظُنَّ فِي نَفْسِكَ الكَمَالَ، وَيُدْخِلَ عَلَيْكَ الغُرُورَ وَالعُجْبَ، أَو يَذُمَّكَ حَتَّى تَيْأَسَ وَتَقْنَطَ مِنْ إِصْلَاحِ نَفْسِكَ. أَمَّا الـمُؤْمِنُ الكَامِلُ فَهُوَ الـمُرْشِدُ الصَّادِقُ الذي صُقِلَتْ مِرْآتُهُ بِصُحْبَةِ مُرْشِدٍ كَامِلٍ، وَرِثَ عَنْ مُرْشِدٍ قَبْلَهُ، وَهَكَذَا حَتَّى يَتَّصِلَ بِرَسُولِ اللهِ ، وَهُوَ الـمِرْآةُ التي جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى الـمَثَلَ الأَعْلَى للإِنْسَانِيَّةِ الفَاضِلَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾.

فَالطَّرِيقُ العَمَلِيُّ الـمُوصِلُ لِتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَالتَّحَلِّي بِالكَمَالَاتِ الخُلُقِيَّةِ هُوَ صُحْبَةُ الوَارِثِ الـمُحَمَّدِيِّ وَالـمُرْشِدِ الصَّادِقِ الذي تَزْدَادُ بِصُحْبَتِهِ إِيمَانَاً وَتَقْوَىً وَأَخْلَاقَاً، وَتَشْفَى بِمُلَازَمِتِهِ وَحُضُورِ مَجَالِسِهِ مِنْ أَمْرَاضِكَ القَلْبِيَّةِ وَعُيُوبِكَ النَّفْسِيَّةِ، وَتَتَأَثَّرُ شَخْصِيَّتُكَ بِشَخْصِيَّتِهِ التي هِيَ صُورَةٌ عَنِ الشَّخْصِيَّةِ الـمِثَالِيَّةِ، شَخْصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ .

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُعَالِجَ أَمْرَاضَهُ القَلْبِيَّةَ، وَأَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ عِلَلِهِ النَّفْسِيَّةِ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَالاطِّلَاعِ عَلَى أَحَادِيثِ الرَّسُولِ ﷺ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ جَمَعَا أَنْوَاعَ الأَدْوِيَةِ لِمُخْتَلَفِ العِلَلِ النَّفْسِيَّةِ وَالقَلْبِيَّةِ، فَلَا بُدَّ مَعَهُمَا مِنْ طَبِيبٍ يَصِفُ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءَهُ وَلِكُلِّ عِلَّةٍ عِلَاجَهَا*.

*(تَسَرَّعَ بَعْضُ القُرَّاءِ فَفَهِمَ هَذِهِ العِبَارَةَ عَلَى غَيْرِ مُرَادِهَا، وَظَنَّ أَنَّنَا نَقَّصْنَا مِنْ أَهَمِّيَّةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَزَهَّدْنَا في تِلَاوَتِهِمَا، وَالحَقِيقَةُ أَنَّ رِجَالَ التَّصَوُّفِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ تَعْظِيمَاً لَهُمَا وَتَمَسُّكَاً بِهِمَا.

فَفِي عِبَارَةِ: (بِمُجَرَّدِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ...) بَيَانٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي الاقْتِصَارُ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ بَلْ لَا بُدَّ أَيْضَاً مِنَ الفَهْمِ وَالعَمَلِ، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَدْعُوَانِ للصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ في بَحْثِ (الدَّلِيلُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الصُّحْبَةِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ). وَفِي عِبَارَةِ: (فَلَا بُدَّ مَعَهُمَا...) تَصْرِيحٌ وَاضِحٌ بِلُزُومِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ صُحْبَةُ المُرْشِدِينَ الذينَ يُزَكُّونَ النُّفُوسَ وَيَحُضُّونَ النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةِ وَتَطْبِيقِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ).

فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُطَبِّبُ قُلُوبَ الصَّحَابَةِ وَيُزَكِّي نُفُوسَهُمْ بِحَالِهِ وَقَالِهِ.

فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَثَ مَعَ الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ أُبيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (كُنْتُ فِي الـمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعَاً عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ آخَرُ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ ﷺ شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقَاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقَاً) رواه الإمام مسلم.

وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يُطَبِّبُوا نُفُوسَهُمْ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَازَمُوا مُسْتَشْفَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَكَانَ هُوَ الـمُزَكِّي لَهُمْ وَالـمُشْرِفَ عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ، كَمَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ﴾.

فَالتَّزْكِيَةُ شَيْءٌ، وَتَعْلِيمُ القُرْآنِ شَيْءٌ آخَرُ، إِذِ الـمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يُزَكِّيهِمْ) يُعْطِيهِمْ حَالَةَ التَّزْكِيَةِ. فَفَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ عِلْمِ التَّزْكِيَةِ وَحَالَةِ التَّزْكِيَةِ كَمَا هُوَ الفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ الصِّحَّةِ وَحَالَةِ الصِّحَّةِ، وَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الكَمَالُ.

وَكَمْ نَسْمَعُ عَنْ أُنَاسٍ مُتَحَيِّرِينَ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ الَكِريَم، وَيَطَّلِعُونَ عَلَى العُلُومِ الإِسْلَامِيَّةِ الكَثِيرَةِ، وَيَتَحَدَّثُونَ عَنِ الوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْهَا فِي صَلَاتِهِمْ!.

فَإِذَا ثَبَتَ فِي الطِّبِّ الحَدِيثِ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطَبِّبَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ وَلَوْ قَرَأَ كُتُبَ الطِّبِّ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَبِيبٍ يَكْشِفُ خَفَايَا عِلَلِهِ،

وَيَطَّلِعُ عَلَى مَا عَمِيَ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ مَرَضِهِ، فَإِنَّ الأَمْرَاضَ القَلْبِيَّةَ، وَالعِلَلَ النَّفْسِيَّةَ أَشَدُّ احْتِيَاجَاً للطَّبِيبِ الـمُزَكِّي، لِأَنَّهَا أَعْظَمُ خَطَرَاً، وَأَشَدُّ خَفَاءً وَأَكْثَرُ دِقَّةً.

وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الـمُفِيدِ عَمَلِيَّاً تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَالتَّخَلُّصُ مِنْ عِلَلِهَا عَلَى يَدِ مُرْشِدٍ كَامِلٍ مَأْذُونٍ بِالإِرْشَادِ، قَدْ وَرِثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ العِلْمَ وَالتَّقْوَى وَأَهْلِيَّةَ التَّزْكِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ.

وَهَا نَحْنُ نُورِدُ لَكَ يَا أَخِي مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَمِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، مِنَ الـمُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ وَالهُدَاةِ الـمُرْشِدِينَ العَارِفِينَ بِاللهِ مَا يُثْبِتُ أَهَمِّيَّةَ صُحْبَةِ الدَّالِّينَ عَلَى اللهِ الوَارِثِينَ عَنْ رَسُولِهِ ﷺ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الآثَارِ الحَسَنَةِ، وَالنَّتَائِجِ الطَّيِّبَةِ.

رَحِمَ اللهُ تعالى شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرَ الجَزَاءِ مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

وَعَـلَى أَبِي أَيُّـوبَ حَلَّ فَـقِيدُنَا    ***   ضَـيْـفَـاً فَـكَـانَ لَـهُ المَقَامُ الأَرْفَعُ

بِـجِوَارِ مَنْ نَزَلَ الحَبِيبُ بِدَارِهِ    ***   وَاخْتَارَهُ بِـالـفَـضْـلِ رَبٌّ مُـبْـدِعُ

وَلَهُ مِنَ الـشَّهْبَـاءِ أَصْـلٌ ثَابِتٌ   ***   وَعَلَى ذُرَا اسْتَنْبُولَ مَـثْـوَىً يَسْطَعُ

ذِكْرَاهُ إِنْ ذُكِرَتْ ذُكَاءُ فَمَشْرِقٌ    ***   وَسَنَاهُ إِنْ طَلَعَ الهِلَالُ فَـمَـطْـلِـعُ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 27/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 25/تشرين الأول / 2019م