21ـ ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ (2)

21ـ ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَلَّمِ الدَّرْسَ العَمَلِيَّ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا قَالَ ﴿لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾. يَعْنِي: اذْكُرْنِي عِنْدَ المَلِكِ، بِأَنَّ هُنَاكَ رَجُلَاً مَظْلُومَاً في السِّجْنِ لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ في السِّجْنِ بِدُونِ سَبَبٍ، هَذا الطَّلَبُ مِن سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ تعالى لَا يَعْنِي تَرْكَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، لِأَنَّ تَرْكَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوَاكُلِ.

الإِنْسَانُ المُتَوَاكِلُ هُوَ الذي لَا يَأْخُذُ بِالأَسْبَابِ وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلى اللهِ تعالى حَسْبَ الظَّاهِرِ، وَهَذَا يُعَطِّلُ سُنَّةَ اللهِ تعالى في الكَوْنِ، فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾. دُونَ تَنْفِيذِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولَاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. يَكُونُ مُخْطِئَاً، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ المُتَوَاكِلُ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا مَا رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟

قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ».

وَمَا رواه الترمذي أيضاً عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصَاً وَتَرُوحُ بِطَانَاً».

فَالطَّيْرُ تُبَارِحُ الأَعْشَاشَ لِتَطْلُبَ رِزْقَهَا، وَلَا تَنْتَظِرُ وَتَفْتَحُ أَفْوَاهَهَا لِيَنْزِلَ لَهَا الرِّزْقُ مِنَ السَّمَاءِ وَهِيَ رَاقِدَةٌ في الأَعْشَاشِ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ في كُلِّ حَاجَةٍ   ***   وَلَا تُؤْثِـرَنَّ العَجْزَ يَوْمَاً عَلَى الطَّلَبِ

أَلَـمْ تَـرَ أَنَّ اللهَ قَـالَ لِـمَـرْيَــمٍ   ***   إِلَـيْـكِ فَهُزِّي الجِذْعَ يَسَّاقْطِ الرُّطَبُ

وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيَهُ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا   ***   جَنَتْهُ وَلَـكِـنْ كُـلُّ شَـيْءٍ لَــهُ سَبَبُ

فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تعالى، هُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تعالى هُوَ الوَاحِدُ المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ، وَمِنْهُ كُلُّ النِّعَمِ، وَإِلَيْهِ المَرْجِعُ وَالمَصِيرُ، وَأَنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ التي كُلِّفَ بِهَا العَبْدُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الأَمْرَيْنِ.

الأَخْذُ بِالأَسْبَابِ، ثُمَّ تَفْوِيضُ الأَمْرِ إلى اللهِ تَبَارَكَ وتعالى، وَمَنْ أَفْرَدَ وَاحِدَاً مِنْهُمَا دُوْنَ الآخَرِ فَقَدْ أَخْطَأَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالأَسْبَابِ دُونَ تَفْوِيضِ الأَمْرِ إلى اللهِ تعالى فَقَدْ نَاقَضَ الإِيمَانَ، وَمَنْ فَوَّضَ الأَمْرَ إلى اللهِ تعالى دُونَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ فَقَدْ عَطَّلَ قَانُونَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبَاً* فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾. وَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ اللهِ تعالى بِالسَّعْيِ وَالعَمَلِ.

﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَقَوْلُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ لَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ، بَلْ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ.

كَيْفَ لَا يَكُونُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَوَكِّلَاً، وَهُوَ رَسُولٌ مُخْلِصٌ مُخْلَصٌ مِنْ رُسُلِ اللهِ المَعْصُومِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ أَلَيْسَ هُوَ القَائِلُ لِصَاحِبَيْهِ في السِّجْنِ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ: ﴿يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللهِ تعالى، بَلْ قَالَ: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.

قَوْلُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ لَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ تعالى، لِأَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُخْلَصِينَ، وَالمُخْلَصُ لَا يَكُونُ مُخْلَصَاً مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللهِ تعالى.

سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُتَوَكِّلَاً عَلَى اللهِ تعالى في فِعْلِ نَفْسِهِ، عِنْدَمَا قَالَ: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾. فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُتَوَكِّلَاً عَلَى اللهِ تعالى في أَفْعَالِ عِبَادِ اللهِ.

قَوْلُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ فَلَمَّا سَأَلَ الوِلَايَةَ للمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضَاً للتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى، وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الإِمَارَةِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ للفَتَى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ مُنَاقِضَاً للتَّوَكُّلِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَكْثَرِ الخَلْقِ ثَبَاتَاً، وَمِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تعالى حَقَّ تَوَكُّلِهِ، وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طَلَبَهُ المَلِكُ ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ قَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ لِرَسُولِ المَلِكِ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَاكِرٌ رَبَّهُ تعالى وَمُتَوَكِّلٌ عَلَيْهِ في هَذِهِ الحَالِ، كَمَا في قَوْلِهِ للفَتَى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَوْلُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ للفَتَى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ الضَّمِيرُ هُنَا يَعُودُ عَلَى الفَتَى، وَلَيْسَ عَلَى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاشَاهُ أَنْ يَغْفُلَ عَنِ اللهِ تعالى لَحْظَةً.

كَيْفَ يَغْفُلُ عَنِ اللهِ تعالى وَهُوَ الذي قَالَ لِصَاحِبَيْهِ في السِّجْنِ: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾؟

كَيْفَ يَغْفُلُ عَنِ اللهِ تعالى وَهُوَ الذي قَالَ لِصَاحِبَيْهِ في السِّجْنِ: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾؟

وَفي الخِتَامِ أَقُولُ: سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ غَافِلَاً عَنِ اللهِ تعالى لَحْظَةً وَاحِدَةً، حَتَّى يُقَالَ: ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾. يَعْنِي: أَنْسَى الشَّيْطَانُ سَيِّدَنَا يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلُ، لِأَنَّهُ مِنَ المُخْلَصِينَ، وَالشَّيْطَانُ قَالَ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.

وَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا قَالَ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ قَالَهَا مِنْ بَابِ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، وَهَذَا هُوَ حَقُّ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى. هذا، والله تعالى أعلم.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا عَنْكَ مِنَ الغَافِلِينَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 30/ صفر /1441هـ، الموافق: 28/ تشرين الأول / 2019م