46ـ التجرد من كل علة في العبادة

46ـ التجرد من كل علة في العبادة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ نِعْمَةٍ حِسِّيَّةٍ أَو مَعْنَوِيَّةٍ أَو دِينِيَّةٍ أَو دُنْيَوِيَّةٍ إِلَّا مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى، وَهَذَا مَا أَكَدَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ:

﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾.

﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَتَّى التَّكْلِيفُ الشَّرْعِيُّ الذي أَنْزَلَهُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ هُوَ عَيْنُ النِّعْمَةِ، لِأَنَّ أَثَرَ هَذَا التَّكْلِيفِ رَاجِعٌ إِلَيْنَا لَا إلى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدَىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.

وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾.

فَإِذَا كَانَ خَيْرُ هَذَا التَّشْرِيعِ عَائِدٌ إِلَيْنَا، أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ الْتِزَامُهُ مَعَ الإِخْلَاصِ، مَعَ التَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ، فَلَا يَكُونُ لَنَا مَطْلَبٌ مُقَابِلَ هَذِهِ العِبَادَةِ؟

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ التَّحَقُّقُ بِمَا قَالَهُ القَائِلُ:

إِلَهِي مَا عَبَدْتُكَ خَوْفَاً مِنْ نَارِكَ، وَلَا طَمَعَاً في جَنَّتِكَ، وَلَكِنْ عَبَدْتُكَ لِأَنَّكَ إِلَهٌ تَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ؟

طَلَبُ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: العَمَلُ عَلَى طَلَبِ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَضَّ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ عَلَى العَمَلِ مِنْ أَجْلِ الجَنَّةِ، كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ ماجه عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: «أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدَاً، فِي حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ».

قَالُوا: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللهُ».

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ الجَنَّةَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» كَمَا روى الإمام مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ».

فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ».

قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.

قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية) رواه مسلم. وَالأَحَادِيثُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾.

وَيَقُولُ: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

وَيَقُولُ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

وَيَقُولُ: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

وَكَثِيرٌ مِنَ الآيَاتِ التي تَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الجَنَّةِ بِالعَمَلِ.

نَعَمْ: الكَلَامُ في هَذَا كَثِيرٌ جِدَّاً في القُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ كُلَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ عَلَى عَدْلِهِ، للحَدِيثِ الصَّحِيحِ الجَلِيِّ الوَاضِحِ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَاً عَمَلُهُ الجَنَّةَ».

قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنَاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرَاً، وَإِمَّا مُسِيئَاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَاً عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَزِمَ الأَدَبَ مَعَ اللهِ تعالى أَوَّلَاً، وَأَوَّلُ هَذَا الأَدَبِ أَنْ نُجَرِّدَ أَعْمَالَنَا مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ إِلَّا عِلَّةَ العُبُودِيَّةِ للهِ تعالى، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ الجَنَّةَ عُبُودِيَّةً، وَنَسْتَعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ وَسَخَطِهِ وَغَضَبِهِ عُبُودِيَّةً.

وَنَعْلَمَ أَنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى العَمَلِ، وَلَكِنْ هَذَا مِنْ بَابِ الفَضْلِ لَا العَدْلِ.

فَنَحْنُ نُرِيدُ اللهَ تعالى وَثَوَابَهُ وَجَنَّتَهُ مِنْ فَضْلِهِ مُتَأَسِّينَ بِأُمَّهَاتِنَا أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾. نُرِيدُ هَذَا لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَاً﴾. نُرِيدُ هَذَا مِنْ فَضْلِهِ لَا اعْتِمَادَاً عَلَى أَعْمَالِنَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 2/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 30/ تشرين الأول / 2019م