24ـ كلمة شهر صفر الخير1430هـ: يا من شاهدتم دماء أهلِ غزة

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

كتاب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:

فقد كتب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسُنَّة مُتَّبعة، فافهم إذا أُدْلِيَ إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمعَ شريفٌ في حيفك، ولا يخافَ ضعيفٌ من جورك. اهـ.

كلام ابن القيم:

قال ابن القيم: الإنسان خُلق في الأصل ظلوماً جهولاً، ولا ينفكُّ عن الجهل والظلم إلا بأن يعلّمه الله ما ينفعه، ويلهِمه رشدَه، فمن أراد به خيراً علَّمه ما ينفعه فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علَّمَهُ فخرج به عن الظلم، ومن لم يرد به خيراً أبقاه على أصل الخلقة، فأصل كلِّ خير هو العلم والعدل، وأصلّ كل شرٍّ هو الجهل والظلم.

ويَقُولُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الزُّبَيْدِيُّ: إنَّ الْمَظْلُومَ إذَا شَكَا إلَى الله تَعَالَى اقْتَضَى عَدْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ الإِيقَاعَ بِظَالِمِهِ، فَيُحِبُّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَجْهَرَ الْمَظْلُومُ بِالشَّكْوَى، لِيَكُونَ الْمُقَدَّرُ وَالإِيقَاعُ بِالظَّالِمِ مَبْسُوطَ الْعُذْرِ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَزَاجِراً لأَمْثَالِهِ عَنْ أَمْثَالِ فَاعِلِهِ، وَإِنَّمَا يُمْهِلُ الظَّالِمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَلْقَ إذَا مَلَكَ أَحَدُهُمْ مَمْلُوكِينَ فَجَنَى عَلَى أَحَدِهِمْ جِنَايَةً، فَإِنَّ أَرْشَهَا لِسَيِّدِهِ، فَالْخَلْقُ مِلْكٌ لله عَزَّ وَجَلَّ، فَلا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ. اهـ. الأرش: الدية.

والظلم مضارُّه عظيمة وجسيمة:

أولاً: يجلب غضب الله تعالى وسخطه في الدنيا والآخرة على الظالم.

ثانياً: يسلِّط الله تعالى على الظالم شتى أنواع العذاب عاجلاً أم آجلاً.

ثالثاً: قبول الله دعاءَ المظلوم على الظالم، و يحقِّق للمظلوم ما أراد من الظالم عاجلاً أم آجلاً.

رابعاً: الظلم يخرِّب ديار الظالمين وبسببهم ينال الخراب ديار غير الظالمين، لأنهم لم يأخذوا على يد الظالمين، فالظلم يخرب الدِّيار وبه تنهار الدول.

خامساً: الظالم بعيد من الله عز وجل، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار والعياذ بالله.

سادساً: الظلم معصية متعدِّية للآخرين فيبوء الظالم بإثمه وإثم من ظلمه.

سابعاً: الظالم ما ظلم إلا لقسوة قلبه وظلمته، ولنزع الرحمة منه، والرحمة لا تنزع إلا من شقي، فالظالم شقي.

ثامناً: الظالم مكروه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان مكروهاً من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مكروه من الله عز وجل، وبالتالي عاقبته وخيمة عاجلاً أم آجلاً.

تاسعاً: الظالم محروم من شفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يتب من ظلمه في الحياة الدنيا، ويردَّ المظالم إلى أهلِها.

عاشراً: الظالم مفلس يوم القيامة إذا مات على ظلمه، وسيعضُّ على يديه حسرة وندامة يوم القيامة، وينادي على نفسه بالويل والثبور.

لذلك جاء في بعض المأثورات: إذا كان يوم القيامة يجتمع الظلمة وأعوانهم ومن ألاق لهم دواة وبرى لهم قلماً، فيجعلون في تابوت ويلقون في جهنم.

قال بعضهم:

أما والله إن الظلم لؤمٌ *** وما زالَ المسيءُ هو الظلومُ

إلى ديَّان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصومُ

ستعلم في المعاد إذا التقينا *** غداً عند الحساب من الظلومُ

وقال آخر:

وما من يد إلا يد الله فوقها *** وما ظالمٌ إلا سيُبلى بظالم

وقال آخر:

لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم آخره يأتيك بالندم

نامت عيونك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم

من مصلحتنا نُصرة المظلوم والظالم:

فإذا عرفنا هذا فمن مصلحتنا نصرة المظلوم والظالم لقوله صلى الله عليه وسلم: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: (تَكُفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ) رواه الترمذي.

من مصلحتنا نصرة المظلوم والظالم لقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}.

من مصلحتنا نصرة المظلوم والظالم لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ) رواه أحمد.

من مصلحتنا نصرة المظلوم والظالم لقوله صلى الله عليه وسلم لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: (أَعَاذَكَ الله مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَالصَّلاةُ قُرْبَانٌ ـ أَوْ قَالَ بُرْهَانٌ ـ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا) رواه أحمد.

من مصلحتنا نصرة المظلوم لقوله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: (أمر بعبد من عباد الله يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه وأفاق قال: علام جلدتموني؟ قال: إنك صليت صلاةً بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره) رواه ابن حبان.

من مصلحتنا نصرة المظلوم لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلا خَذَلَهُ الله فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلا نَصَرَهُ الله فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ) رواه أبو داود.

من مصلحتنا نصرة المظلوم لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (قَالَ رَبُّكُمْ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي، لأَنْتَقِمَنَّ مِنَ الظَّالِمِ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، وَلأَنْتَقِمَنَّ مِمَّنْ رَأَى مَظْلُومًا فَقَدَرَ أَنْ يَنْصُرَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ) رواه الطبراني.

يا من شاهدتم دماء أهلِ غزة:

فيا من شاهدتم دماء أهلِ غزة وعندكم المقدرة على نصرتهم، ما أنتم قائلون لله عز وجل يوم القيامة؟

هلَّا نصرتم الظالم بالضرب على يده حتى يكفَّ عن ظلمه؟

فإن لم تقدروا على ضربه، هلَّا قطَّعتم ومزَّقتم كل الصلات بهذا الظالم من طرد ممثليه من دياركم؟ هلاَّ وقفتم مواقف الرجال منه وذلك بقولكم لهم على أقلِّ تقدير: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلِين) فلما تجلسوا معه مجالس الشرفاء؟

يا من شاهدتم دماء أهلِ غزة:

هلّا نصرتموهم بدعمكم لهم بالمال والسلاح وفتح أبواب المعونة لهم وفتح المعابر؟ ما أنتم قائلون لله عز وجل يوم القيامة؟ تذكروا بأن الجزاء من جنس العمل، من نَصر نُصر، ومن خَذل خُذل، ومن دَعم دُعم، ومن أَغاث أُغيث، ومن أَعان أُعين.

قصة سعيد بن عامر الجمحي:

يا من شاهدتم دماء أهلِ غزة وعندكم مقدرة على نصرتهم أسوق لكم قصة سعيد بن عامر الجمحي والي حمص عندما شكاه أهل حمص لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديار الشام يتفقد أحوالها، فلما نزل بحمص وكانت تدعى (الكويفة) وهو تصغير للكوفة وتشبيه لحمص بها لكثرة شكوى أهلِها من عمالهم وولائهم كما كان يفعل أهلِ الكوفة، فلما نزل بها لقيه أهلِها للسلام عليه فقال: كيف وجدتم أميركم؟ فشكوه إليه وذكروا أربعاً من أفعاله، كل واحد منها أعظم من الآخر.

قال عمر: فجمعت بينه وبينهم، ودعوت الله ألا يخيب ظني فيه، فقد كنت عظيم الثقة به.

فلما أصبحوا عندي هم وأميرهم، قلت: ما تشكون من أميركم؟

قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار.

فقلت: وما تقول في ذلك يا سعيد؟

فسكت قليلاً، ثم قال: والله إني كنت أكره أن أقول ذلك، أما وإنه لا بد منه، فإنه ليس لأهلِي خادم، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر، ثم لأخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس.

قال عمر: فقلت لهم: وما تشكون منه أيضاً؟ قالوا : إنه لا يجيب أحداً بليل.

قلت: وما تقول في ذلك يا سعيد؟

قال: إني والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضاً، فأنا قد جعلت النهار لهم، والليل لله عز وجل.

قلت: وما تشكون منه أيضاً؟

قالوا : إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر.

قلت: وما هذا يا سعيد؟ قال: ليس لي خادم يا أمير المؤمنين، وليس عندي ثياب غير التي عليَّ، فأنا أغسلها في الشهر مرة، وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم في آخر النهار.

ثم قلت: وما تشكون منه أيضاً؟ قالوا: تصيبه من حين إلى آخر غشية فيغيب عمن في مجلسه.

فقلت: وما هذا يا سعيد؟

فقال: شهدت مصرع خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ وأنا مشرك، ورأيت قريشاً تقطِّع جسده وهي تقول له: أتحب أن يكون مُحَمَّدٍ مكانك؟ فيقول: والله ما أحب أن أكون آمناً في أهلِي وولدي، وأن مُحَمَّداً تشوكه شوكة... وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أني تركتُ نُصرَتَه إلا ظننتُ أن الله لن يغفر لي... وأصابتني تلك الغشية.

سعيد بن عامر يتفطَّر قلبه ويقطر دماً لأنه ما نصر خبيب بن عدي في وقت كان سعيد فيه مشركاً، فكيف بكم أنتم؟ تفقَّدوا إيمانكم.

اللهم إنا نبرأ إليك مما صنع الظالمون ومما يصنعون، ونبرأ إليك من جميع الخونة الذين وقفوا مع الظالم فأعانوه على زيادة الظلم على المظلوم الذي لم يجد ناصراً له سواك، ولا نملك لهم إلا أن نقول: اللهم أيدهم بتأييد من عندك، تقبَّلْ شهداءَهم، داوِ جرحاهم، اشف مرضاهم، استر أعراضهم، أمِّن روعاتهم، انصرهم على عدوك وعدوِّهم يا ذا القوة المتين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

أخوكم: أحمد شريف النعسان

**     **     **