17ـ الشيخ عبد الحميد كيالي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

17ـ الشيخ عبد الحميد كيالي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

1295/1375هـ 1876/1956م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

هُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ بْنُ الشَّيْخِ أَحْمَد بْنِ الشَّيْخِ مُحَمَّد طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدَ الطَّيَّارِ، وَيَنْتَهِي نَسَبُهُ إلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرْكَنْ إلى نَسَبِهِ الشَّرِيفِ، وَإِنَّمَا سَعَى إلى التَّحَقُّقِ بِهَذَا النَّسَبِ، قَوْلَاً وَعَمَلَاً، وَكَانَ لِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ:

لَسْنَا وَإِن أَحْسَابُنَا كَرُمَتْ   ***   يَوْمَاً عَلَى الأَنْسَابِ نَتَّكِلُ

وَكَأَنَّهُ يَسْتَحْضِرُ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».

هُوَ عَالِمٌ فَقِيهٌ وَوَجِيهٌ فَاضِلٌ مِنْ بَيْتِ عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَوَجَاهَةٍ في حَلَبَ، وُلِدَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ سَنَةَ 1295هـ 1876م وَنَشَأَ في أُسْرَةِ عِلْمٍ وَدِيَانَةٍ، وَأَخَذَ مَبَادِئَ عُلُومِهِ وَأُسَسَ أَخْلَاقِهِ مِنْ وَالِدِهِ الشَّيْخِ أَحْمَد وَجَدِّهِ الشَّيْخِ مُحَمَّد طَاهِرِ، وَمَا إِنْ شَبَّ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ حَتَّى الْتَحَقَ بِالشَّعْبَانِيَّةِ، حَيْثُ تَلَقَّى فِيهَا العُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ وَالعَرَبِيَّةَ عَنْ كِبَارِ شُيُوخِ عَـصْرِهِ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ تَأْثِيرَاً في بِنَائِهِ العِلْمِيِّ شَيْخُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَحِيمِي الجَذْبَة.

لَمْ يَرْتَوِي ظَمَأُ الشَّيْخِ إلى العِلْمِ في حَلَبَ، فَشَدَّ الرِّحَالَ إلى القَاهِرَةِ لِيَلْتَحِقَ بِأَزْهَرِهَا الـشَّرِيفِ، وَيَنْهَلَ مِنْ مَنَاهِلِ عِلْمِهِ عَلَى شُيُوخِهِ الأَجِلَّاءِ، أَمْثَالِ الشَّيْخِ مُحَمَّد مَحْمُود خَطَّابِ، وَالشَّيْخِ حُسَين الـطَّرَابُلْسِيِّ الحَنَفِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ العُلَمَاءِ الذينَ شَهِدُوا للشَّيْخِ عَبْدِ الحَمِيدِ بِالعِلْمِ وَالفَضْلِ، وَلِهَذَا فَقَدْ أَجَازُوهُ إِجَازَاتٍ عَامَّةً مَهَرُوهَا بِتَوْقِيعَاتِهِمْ.

عَادَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ إلى حَلَبَ لِيَحْمِلَ رَايَةَ العِلْمِ وَالهِدَايَةِ وَالنُّصْحِ وَالإِرْشَادِ، وَتَسَلَّمَ كَثِيرَاً مِنَ المَنَاصِبِ وَالأَعْمَالِ، وَكَانَ أَهَمُّهَا التَّدرِيسَ وَالإِرْشَادَ في جَامِعِ العُمَرِيِّ، وَالتَّدرِيسَ وَالإِرْشَادَ وَالوَعْظَ في جَامِعِ الحَاج موسى الأَمِيرِيِّ؛ وَالإِمَامَةَ وَالخَطَابَةَ في جَامِعِ الحَاج موسى.

كَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ المُدَرِّسَ الأَوَّلَ في المَدْرَسَةِ الشَّعْبَانِيَّةِ، وَعُضْوَاً في المُجَمَّعِ العِلْمِيِّ العَرَبِيِّ في دِمَشْقَ، وَرَئِيسَاً للَجْنَةِ المُجَمَّعِ العِلْمِيِّ بِحَلَبَ، حَيْثُ كَانَتْ مُهِمَّتُهَا إِصْلَاحَ المَدَارِسِ الـشَّرْعِيَّةِ (الـخُسْرَوِيَّةِ وَالشَّعْبَانِيَّةِ وَالإِسْمَاعِيلِيَّةِ) وَوَضْعَ نِظَامٍ تَعْلِيمِيٍّ لَهَا، وَالعَمَلَ عَلى وَضْعِ مَنَاهِجَ وَطُرُقِ تَدْرِيسٍ حَدِيثَةٍ فِيهَا.

كَمَا كَانَ الشَّيْخُ عُضْوَاً في مَجْلِسِ الأَوْقَافِ العِلْمِيِّ وَالإِدَارِيِّ، ثُمًّ إِنَّهُ اسْتَلَمَ إِفْتَاءَ مَنْطِقَةِ جَبَلِ سَمْعَانَ عَامَ 1919م وَبَعْدَهَا اسْتَلَمَ إِفْتَاءَ مَدِينَةِ حَلَبَ عَامَ 1922م وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ المُفْتِي الشَّيْخِ مُحَمَّد العبيسي.

بَاشَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ مَهَامَ الإِفْتَاءِ بِسَعَةِ عِلْمٍ وَرَجَاحَةِ عَقْلٍ وَرَحَابَةِ صَدْرٍ، وَمَحَبَّةٍ وَسِعَتِ النَّاسَ جَمِيعَاً، مُلْتَزِمَاً بِأَحْكَامِ الدِّينِ الحَنِيفِ وَسَمَاحَتِهِ، مُبْتَعِدَاً عَنِ التَّعَصُّبِ المَذْهَبِيِّ، آخِذَاً بِآرَاءِ الفُقَهَاءِ لِيُقَدِّمَ لِمُسْتَفْتِيهِ مَا فِيهِ الصَّوَابُ وَالتَّيْسِيرُ.

كَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ يُرَدِّدُ في مَجَالِسِهِ كَلِمَتَهُ المَعْهُودَةَ: (إِنَّ دِينَنَا الإِسْلَامِيَّ دِينُ يُـسْرٍ لَا دِينُ عُسْرٍ). لِهَذَا فَقَدْ مَالَتْ إِلَيْهِ القُلُوبُ، وَاطْمَأَنَّ إلى فَتَاوِيهِ عَامَّةُ النَّاسِ وَخَاصَّتُهُمْ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرَاً مِنَ النَّصَارَى في حَلَبَ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ في حَلِّ مُشْكِلَاتِهِمْ وَقَضَايَاهُمْ، وَيَأْخُذُونَ بِحُكْمِهِ في مَسَائِلِهِمْ وَخِلَافَاتِهِمْ.

لَقَدِ اتَّخَذَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ مَنْهجَ النُّصْحِ وَالإِرْشَادِ في تَوْجِيهِ عَامَّةِ النَّاسِ، دَاخِلَ وَطَنِهِ وَخَارِجَهُ، فَهُوَ دَائِمُ السَّعْيِ في مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ، يُسَاعِدُ فُقَرَاءَهُمْ وَيَقِفُ إلى جَانِبِ ضُعَفَائِهِمْ، وَيَدْعَمُ بِنَاءَ المَسَاجِدِ.

وَقَدْ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ الإِشْرَافَ عَلَى لَجْنَةِ جَمْعِ التَّبَرُّعَاتِ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ وَتَرْمِيمِ المَسْجِدِ الأَقْصَى، كَمَا أَنَّهُ قَدْ أَسْهَمَ في جَمْعِ التَّبَرُّعَاتِ الوَفِيرَةِ لِبِنَاءِ جَامِعِ بَارِيسَ وَفَرْشِهِ وَاسْتِكْمَالِ مَا يَلْزَمُ فِيهِ.

كَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ كَرِيمَ النَّفْسِ وَاسِعَ الحِلْمِ يُوَاجِهُ الإِسَاءَةَ بِالإِحْسَانِ وَالتَّسَامُحِ، كَانَ مُتَوَاضِعَاً يَقُومُ عَلَى خِدْمَةِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، وَيَسْعَى في إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ، فَأَلَّفَ القُلُوبَ المُتَنَافِرَةَ مِنْ حَوْلِهِ، وَالنُّفُوسَ المُتَنَاعِرَةَ التي كَانَتْ تَعْمَلُ ضِدَّهُ، لَمْ تَعُمَّ أَخْلَاقُهُ أَبْنَاءَ دِينِهِ فَحَسْبُ، بَلْ كُلَّ أَبْنَاءِ وَطَنِهِ، في نَسِيجٍ رَائِعٍ، سُدَاهُ التَّوَاضُعُ وَلُحْمَتُهُ المَحَبَّةُ وَالإِخْلَاصُ؛ كَمَا أَنَّهُ كَانَ وَرِعَاً زَاهِدَاً في الدُّنْيَا، فَلَقَدْ أَتَتْهُ الدُّنْيَا مِنْ جَمِيعِ أَطْرَافِهَا، فَوَضَعَهَا في كَفِّهِ، وَأَنْفَقَهَا إِنْفَاقَ مَنْ لَا يَخْشَى الفَقْرَ؛ كَانَتِ الابْتِسَامَةُ لَا تُفَارِقُ مُحَيَّاهُ أَبَدَاً.

ظَلَّ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ قَائِمَاً عَلَى الإِفْتَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ عُقُودٍ، إلى أَنْ وَافَتْهُ المَنِيَّةُ في يَوْمِ الجُمُعَةِ الثَّانِي وَالعِشْرِينَ مِنْ شَوَّال سَنَةَ 1375هـ المُوَافِقَ 1حزيران 1956م.

وَحَزِنَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِهِ، وَشَيَّعُوهُ بِجِنَازَةٍ اجْتَمَعَ لَهَا الآلَافُ مِنَ العُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ وَمُحِبِّيهِ، وَبَعْدَ أَنْ صَلُّوا عَلَيْهِ دُفِنَ الشَّيْخُ عَبْدُ الحَمِيدُ في مَقْبَرَةِ الصَّالِحِينَ.

رَحِمَ اللهُ تعالى الشَّيْخَ عَبْدَ الحَمِيدُ وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؛ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

تاريخ الكلمة:

الخميس: 27/ جمادى الثانية /1439هـ، الموافق: 15/ آذار / 2018م