19ـ الشيخ أحمد المكتبي الكبير رَحِمَهُ اللهُ تعالى

19ـ الشيخ أحمد المكتبي الكبير رَحِمَهُ اللهُ تعالى

1263/1342هـ 1847/1924م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

هُوَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ ابْنُ الحَاجِّ مُصْطَفى بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ الشَّيْخِ مُحَمَّد الشَّهِيرِ بِالمَكْتَبِيِّ، العَالِمُ العَامِلُ وَالجَهْبَذُ الكَامِلُ، المُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ الأُصُولِيُّ، فَقِيهُ الشَّافِعِيَّةِ في الدِّيَارِ الحَلَبِيَّةِ.

وُلِدَ في رَجَبٍ سَنَةَ 1263هـ 1847م وَأَوَّلُ مَنْ تَلَقَّى عَنْهُمُ العِلْمَ الشَّيْخُ الكَبِيرُ أَحْمَد التِّرْمَانِينِي، قَرَأَ عَلَيْهَ القَطْرَ وَالشُّذُورَ وابْنَ عَقِيلٍ في النَّحْوِ، وَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ شَهِيد التِّرْمَانِينِيِّ وَالشَّيْخِ إِسْمَاعِيلَ اللَّبَابِيدِيِّ؛ أَمَّا الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر حَبَّال فَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ حَاشِيَةَ الخُضَرِيِّ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ.

تَوَجَّهَ الشَّيْخُ أَحْمَد في عَامِ 1280هـ 1863م إلى مِصْرَ، فَدَخَلَ الأَزْهَرَ، وتَلَقَّى هُنَاكَ عَنْ أَكَابِرِ عُلَمَائِهِ؛ مِنْهُمُ: الشَّيْخُ مُحَمَّد الأَنْبَابِيُّ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّد الخُضَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَحْمَد الرِّفَاعِيُّ، وَالشَّيْخُ أَحْمَد الجِيزَاوِيُّ، وَالشَّيْخُ أَحْمَد الأُجْهُورِيُّ، وَالشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ السَّقَّا، أَخَذَ عَنْهُمْ عِلْمَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالمَعَانِي وَالبَيَانِ، وَفِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ وَالحَدِيثِ وَالأُصُولِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العُلُومِ.

وَلَقَدْ أَجَازَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد الخُضَرِيُّ وَالشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الخَلِيلِيُّ، ثُمَّ إِنَّهُ بَقِيَ في الأَزْهَرِ إلى سَنَةِ 1290هـ 1873م وَصَارَ يَقْرَأُ ثَمَّةَ بَعْضَ الدُّرُوسِ في أَوْقَاتِ فَرَاغِهِ، وَفي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ إلى حَلَبَ وَدَخَلَ المَدْرَسَةَ العُثْمَانِيَّةَ فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ سِنِينَ.

ثُمَّ تَوَجَّهَ إلى الشَّامِ فَدَخَلَ المَدْرَسَةَ المُرَادِيَّةَ فَبَقِيَ فِيهَا خَمْسَ سِنِينَ، حَضَرَ فِيهَا عَلَى فُضَلَاءِ الشَّامِ وَقْتَئِذٍ، وَمِنْ رُفَقَائِهِ في الحُضُورِ مُحَدِّثُ الشَّامِ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ الحَسَنِيُّ، وَانْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا رَوَابِطُ المَحَبَّةِ وَالصَّدَاقَةِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَكَانَا يَتَبَادَلَانِ رَسَائِلَ التَّحِيَّاتِ وَالسَّلَامَاتِ مِنْ خِلَالِ المُسَافِرِينَ مِنْ تَلَامِيذِهِمْ وَمُحِبِّيهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ تَوَجَّهَ مَرَّةً ثَانِيَةً إلى مِصْرَ سَنَةَ 1299هـ 1882م وَبَقِيَ فِيهَا سَبْعَ سِنِينَ، وَكَانَ يَقْرَأُ في تِلْكَ المُدَّةِ دُرُوسَاً في الأَزْهَرِ، كَمَا صَحَّحَ كُتُبَاً كَثِيرَةً في المَطْبَعَةِ التي أَسَّسَهَا الشَّيْخُ أَحْمَد البَابِيُّ الحَلَبِيُّ، وَفي أَوَاخِرِ 1305هـ 1888م عَادَ إلى حَلَبَ، فَأَلْقَى عَصَا التَّسْيَارِ فِيهَا، وَكَانَ في تِلْكِ المُدَّةِ قَدْ فَضُلَ وَتَنَبَّلَ وَامْتَلَأَ وِعَاؤُهُ عِلْمَاً، فَتَصَدَّرَ للتَّدْرِيسِ وَعُيِّنَ مُدَرِّسَاً للحَدِيثِ في الحِجَازِيَّةِ التي في الجَامِعِ الكَبِيرِ، ثُمَّ عُيِّنَ مُدَرِّسَاً للمَدْرَسَةِ الصَّاحِبِيَّةِ تُجَاهَ خَانِ الوَزِيرِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الطُّلَّابُ لِتَلَقِّي مَا عِنْدَهُ مِنْ عُلُومٍ جَمَّةٍ.

لَقَدْ كَانَ هَذَا شَأْنَ العُلَمَاءِ في عَهْدِ الشَّيْخِ أَحْمَد وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، إِذْ لَا بُدَّ لِطَالِبِ العِلْمِ مِنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ طَلَبِ العِلْمِ وَتَحَمُّلِ صُعُوبَاتِ الأَسْفَارِ مِنْ أَجْلِهِ، وَمُكَابَدَةِ الوُصُولِ إلى مَنَابِعِ العِلْمِ حَيْثُمَا يُتَوَقَّعُ وُجُودُهُ مِنَ العُلَمَاءِ الكِبَارِ في رُقْعَةِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ الوَاسِعَةِ.

لَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بَارِعَاً في عِلْمِ الحَدِيثِ، وَإِلَيْهِ المُنْتَهَى فِيهِ بِلَا مُنَازِعٍ، وَأَمَّا الفِقْهُ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ تَفَرَّدَ في الشَّهْبَاءِ فِيهِ، وَصَارَ إِلَيْهِ المَرْجِعُ، وَأَمَّا النَّحْوُ فَقَدْ كَانَ فِيهِ إِمَامَاً وَمُعْظَمُ العُلَمَاءِ وَالطُّلَّابِ الذينَ هُمْ مِنْ جِيلِ الشَّيْخِ رَاغِب الطَّبَّاخِ قَلَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ.

وَكَانَ يَحْضُرُ دَرْسَهُ في الحِجَازِيَّة وَأَمَامَ الحَضْرَةِ في الجَامِعِ الأُمَوِيِّ المِئَاتُ مِنَ العَوَامِّ، وَانْتَفَعُوا بِدُرُوسِهِ وَوَعْظِهِ وَإِرْشَادِهِ؛ ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ عُيِّنَ مُدَرِّسَاً لِمَدْرَسَةِ الشَّيْخِ مُوسَى الرِّيحَاوِيِّ في مَحَلَّةِ بَابِ قـنسرين، وَمِنْ أَجْلِ اسْتِمْرَارِ المَدْرَسَةِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا سَعَى الشَّيْخُ أَحْمَد إلى جَمْعِ المَالِ مِنْ أَهْلِ الخَيْرِ، فَبَنَى دَارَاً وَمَخْزَنَيْنِ مُلَاصِقَاتٍ للمَدْرَسَةِ، وَوَقَفَ هَذِهِ العَقَارَاتِ عَلَى المَدْرَسَةِ لِتَأْمينِ رَيْعٍ لَهَا.

ثُمَّ إِنَّهُ عُيِّنَ مُدَرِّسَاً للفِقْهِ الشَّافِعِيِّ في المَدْرَسَةِ الدليواتيَّةِ في مَحَلَّةِ الفَرَافِرَةِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا فُتِحَتِ المَدْرَسَةُ الخُسْرَوِيَّةُ عُيِّنَ مُدَرِّسَاً للنَّحْوِ فِيهَا، فَقَرَأَ عَلَى الطُّلَّابِ شَرْحَ ابْنَ عَقِيلٍ عَلَى الأَلْفِيَّةِ وَحَاشِيَةَ الخُضَرِيِّ عَلَيْهِ.

كَانَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ في التَّدْرِيسِ، مُوَاظِبَاً عَلَى ذَلِكَ حَقَّ المُوَاظَبَةِ، لَا يَعْرِفُ الكَلَلَ وَلَا المَلَلَ، لَا يَقْطَعُ دَرْسَهُ إِلَّا لِمَرَضٍ يَعْتَرِيهِ.

كَانَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ ذَا شَيْبَةٍ مُهَابَةٍ، وَقُورَاً، صَالِحَاً، وَرِعَاً، مُتَعَبِّدَاً، قَلِيلَ الاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ، بَعِيدَاً عَنْ مَحَافِلِهِمْ وَاجْتِمَاعَاتِهِمْ، وَقَلَّ أَنْ يَحْضُرَهَا، لَا يَتَطَلَّعُ إلى وَظِيفَةٍ، وَلَا يَطْلُبُهَا مِنْ أَحَدٍ، عَاشَ عَيْشَةَ الكَفَافِ، وَرُبَّمَا ضَاقَتْ بِهِ الحَالُ فَيَتَحَمَّلُ ذَلِكَ وَيَصْبِرُ.

كَانَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ مِنْ خِيَارِ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ، وَخَاصَّةُ النَّاسِ وَعَامَّتُهُمْ لَهُمْ فِيهِ اعْتِقَادٌ عَظِيمٌ، وَيُحَاوِلُونَ تَقْبِيلَ يَدْهِ فَلَا يُمَكِّنُ أَحَدَاً مِنْ ذَلِكَ؛ وَللشَّيْخِ أَحْمَد المَكْتَبِيِّ مُؤَلَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ في النَّحْوِ وَالفِقْهِ وَالوَعْظِ وَالإِرْشَادِ.

وَأَهَمُّ مُؤَلَّفَاتِهِ حَاشِيَتُهُ عَلَى حَاشِيَةِ الخُضَرِيِّ عَلَى شَرْحِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَسَبَبُ وَضْعِهِ لِهَذِهِ الحَاشِيَةِ أَنَّهُ أَقْرَأَ شَرْحَ ابْنَ عَقِيلٍٍ وَحَاشِيَةَ الخُضَرِيِّ عَلَيْهِ نَحْوَ عِشْرِينَ مَرَّةً، فَرَأَى أَنْ يُدَوِّنَ تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى تِلْكَ الحَاشِيَةِ.

وَمِنْ مُؤَلَّفَاتِهِ أَيْضَاً حَاشِيَتُهُ عَلَى السَّخَاوِيَّةِ في الحِسَابِ، وَرِسَالَتَانِ في الحَيْضِ عَلَى مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرِسَالَةٌ في فَضْلِ عَاشُورَاءَ، وَرِسَالَةٌ في ذَوِي الأَرْحَامِ، وَرِسَالَةٌ في عِلْمِ الخَطِّ، وَرِسَالَةٌ في الإِخْلَاصِ، وَرِسَالَةٌ في الرُّؤْيَا، وَرِسَالَةٌ في عِلْمِ التَّجْوِيدِ، وَرِسَالَةٌ في السُّلُوكِ في الطَّرِيقِ.

مَرِضَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ أَيَّامَاً نَحْوَ أُسْبُوعٍ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَادِسَ صَفَرَ سَنَةَ 1342هـ 1924م وَدُفِنَ في تُرْبَةِ الشَّيْخِ السفيري وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً حَضَرَهَا العُلَمَاءُ وَطُلَّابُ العِلْمِ وَعَامَّةُ مُحِبِّيهِ مِنْ أَهَالِي حَلَبَ.

وَكَانَ الحزْنُ عَلَيْهِ كَبِيرَاً وَفَقَدَتِ الشَّهْبَاءُ عَلَمَاً مِنَ الأَعْلَامِ، وَرُكْنَاً عَظِيمَاً مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَمْ يَخْلُفْهُ في الفِقْهِ الشَّافِعِيِّ وَالنَّحْوِ وَالحَدِيثِ مِثْلُهُ.

رَحِمَ اللهُ تعالى الشَّيْخَ أَحْمَد المَكْتَبِي الكَبِيرَ وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؛ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

تاريخ الكلمة:

الخميس: 18/ رجب /1439هـ، الموافق: 5/ نيسان / 2018م